مرتضى الجصاني
اشتهر في تاريخ الدولة العباسية الكثير من الموسيقيين، وكذلك الكثير من الخطاطين، وهؤلاء لعبوا دوراً كبيراً في تطوير الموسيقى والخط العربي، ومن هؤلاء المبدعين الذين تركوا أثراً فنياً كبيراً في التراث الإنساني بصورة عامة، والتراث البغدادي على وجه الخصوص، إبراهيم الموصلي وابنه اسحاق وزرياب والفارابي، وغيرهم ممن لم نعثر على أثر لهم. على الجانب الآخر وهو الخط العربي أيضاً هناك ثلة مبدعة وعبقرية انتجتها بيئة الدولة العباسية المتوهجة بالفكر والفن، فهناك ابن مقلة وابن البواب وياقوت الرومي المستعصمي والسهروردي، بين الموسيقى والخط العربي ظهر مبدع كبير، وربما هو أيضاً ممن سقط اسمه من كتب التاريخ بسبب مرحلته التاريخية الحرجة التي عاشها وعايشها وكتب عنها، هو صفي الدين الأرموي البغدادي، واسمه عبد المؤمن بن يوسف بن فاخر الأرموي البغدادي، كتب الخط المنسوب على طريقة ابن البوّاب بقوّة وجلال كبيرين، ويوضع الأرموي في صف الكبار في الخط العربي.
قيل إن ياقوت المستعصمي آخذ عنه الخط، أو العكس أي أنه أخذ الخط عن ياقوت المستعصمي، وهناك رواية خلاف هذا كله حيث تقول بضعف خط الأرموي، لكنها غير معتد بها، بكل الأحوال عرف صفي الدين الأرموي كخطاط محترف في نسخ الكتب، لكن ليس بمستوى ياقوت المستعصمي أو ابن البواب أو ابن مقلة، كان صاحب خزانة كتب الخليفة المستعصم، وكانت له عناية كبيرة بالموسيقى والخط. وُلد صفي الدين سنة 613 هجرية، وعن ولادته قيل انه ولد في بغداد وهو من أرومية بلاد في أذربيجان، ينسب لها أجداده، لكنه تحدث عن نفسه، فقال: "وردت بغداد صبيا، وأتيت فقيها بالمستنصرية شافعيا في أيّام المستنصر. واشتغلت بالمحاضرات والآداب العربية وتجويد الخطّ، فبلغت فيه الغاية، ثمّ اشتغلت بضرب العود فكانت قابليتي فيه أعظم من الخطّ، لكن اشتهرتُ بالخطّ، ولم اُعرف بغيره في ذلك الوقت". ثمّ إنّ الخلافة وصلت إلى المستعصم، فعمّر خزانة كُتُبٍ، وأمر أن يُختار لها كاتبان يكتبان ما يختاره. ولم يكن في ذلك الوقت أفضل من الشيخ زكي الدين، وكنت دونه في الشهرة، فرُتّبنا في ذلك.
هذا يعني أنه أتى بغداد وهو صبي ودرس في المدرسة المستنصرية، ولم يولد فيها كما يُذكر دائما في ترجمة سيرته، وبقي الأرموي مجهولا عند الكثير من الناس ذلك بسبب المرحلة التاريخية الحرجة، حيث عاصر نهاية الدولة العباسية وبداية الدولة المغولية، وجاء الأرموي ليكمل ما بدأه الأوائل في الموسيقى وفنونها وبحوثها، على غرار ما فعله الكندي والفارابي، وهكذا نال الأرموي مرتبة عالية في الموسيقى والتاريخ والحكمة والخط، غير إنه أبدع أشد الإبداع في التأليف الموسيقي والتنظير للموسيقى الشرقية، فوضع كتابا في ذلك أسماه "الأدوار والإيقاع".
ومن لطائف هذا الكتاب أنه لم يضع تأليفاً وصفياً أو كلاما انطباعيا للموسيقى، بل وضع أسس السلم الموسيقي بصورته العلمية، وإليه يرجع الفضل في ضبط الأنغام وأدوارها وفي إحكام القواعد النظرية، كما أنه أول من ضبط تدوين نغم الألحان وإيقاعاتها فجعل النغم حروفاً، ولأزمنة الإيقاع أعداداً، بإزاء أجزاء اللحن، فكان حجة في النغم وتدويناته ومعرفة أماكن النغم على آلة العود، حيث كان بارعاً في الضرب على آلة العود إلى جانب مواهبه في الخط العربي والكتابة ونسخ الكتب. وقد أدرك صفي الدين الأرموي الخليفة العباسي المستعصم (1243 / 1258)، في أواخر خلافته، فقربه إليه واتخذه نديماً، وسلمه مفاتيح خزانة الكتب، وسمح له بنسخ ما يستجد من الكتب، ومعرفة الخليفة المستعصم بالأرموي جاءت عن طريق جارية مغنية تدعى "لحاظ"، كانت بارعة الحسن والغناء، وقد اقترن اسمها باسم أستاذها صفي الدين الأرموي، فكلما غنت أغنية أعجبت الخليفة، فيسألها عنها فتقول هذه لأستاذي صفي الدين الأرموي، فبعث له الخليفة وأحضره، فوجد فيه الفنان العبقري والمحدث اللبق الرقيق والموسيقار الفذ، فقربه نديما وضاربا للعود حتى أصبح أقرب ندمائه.
وللأرموي تلاميذ كثر في الموسيقى وفي الخط، من تلاميذه المغنية "لحاظ" والمغنية "صبا" اللتين بلغتا أوج المجد والشهرة في أواخر خلافة المستعصم, وكان يصطحب معه المغنية "صبا" لتغني أمام هولاكو، ومن تلاميذه أيضاً شمس الدين بن يحيى السهروردي، وهو من سلالة شهاب الدين السهروردي، وأخذ عنه الموسيقى والخط والفقه الشافعي، كذلك من تلامذته الأخوين بهاء الدين وشرف الدين الجويني، وهكذا له تلامذة آخرين ذكرهم عبد القادر المراغي المتوفى سنة 378 هجرية، في كتابه "الموسيقى". غير أن إبداع الأرموي في مجال الموسيقى جاء على حساب إبداعه في الخط، حتى عرف كموسيقار بعد أن كان معروفا كخطاط، تكللت جهوده في الموسيقى بأطروحتين، يعدها الباحثون أعظم وأفضل ما كتب في الموسيقى العربية وهما "الأدوار والإيقاع" و "الرسالة الشرفية"، والرسالة الشرفية نسبة إلى تلميذه شرف الدين الجويني، وهي في النسب التأليفية. يمكن أن تصنف حياة الأرموي إلى مرحلتين، مرحلة الخلافة العباسية ومرحلة الغزو المغولي. وقد ذكرنا شهرته في أيام الدولة العباسية وخليفتها المستعصم، وصفي الدين يذكر أيامه في ظل الغزو المغولي لبغداد، ويروي تفاصيله وما حدث له من تردي في حاله وماله حتى استعاد وضعه في الموسيقى والغناء عند هولاكو، إلى أن توفي في عام 1294 في بغداد.
مراجع
• ياقوت المستعصمي "سلسلة أشهر الخطّاطين في الإسلام"، تأليف الربيز: صلاح الدين المنجد. 1985، دار الكتاب الجديد، بيروت، لبنان.
• صفي الدين الأرموي مجدد الموسيقى العباسية، د. عادل البكري.
• صفي الدين الأرموي البغدادي، د.محمود الحفني.