ابتهال بليبل
الرغبة في تشخيص مفهوم اللاإنسانية سنجده عند الفنانة التشكيلية الألمانية كاتي كولفيتس (1867 – 1945) حيث يظهر بشكل واضح في العديد من رسوماتها التي تناولت موضوعات الحرب والجوع والاضطهاد الاجتماعي وغيرها من ثيمات جسدت الواقعية في سياق تاريخها الفني.
إلا أن أكثر ما يمكن الاستقرار عليه في تجربتها هو أن كولفيتس تبنت موقفاً ضد الألم والقسوة،هما اللذان ينبعان من تجارب حياتية واكبتها بمرارة، حتى أنها صرحت في مذكراتها، قائلة (شعرت أنني لا أملك الحق في الانسحاب من مسؤولية الدفاع عن حقوق الإنسان)، وهذا كله كان يدفعها بحثاً عن العدالة الاجتماعية التي كانت مفقودة - كما وثقتها أعمالها الفنية- في عصرها آنذاك.
اعتادت كولفيتس عبر أعمالها التعبيرية أن تصور تناقضات "العتمة والضوء"، عبر كثافة الخطوط كوسيلة تصرخ من خلالها وهي تنتقد ما يحدث في المجتمع من مآسٍ وكوارث، وخاصة تجاه المرأة والطفل، فرسمت "امرأة مع طفل ميت" و "المرأة والموت"، " ثورة النساجين"، " لن تتكرر الحرب" وغيرها.
الملفت في أعمال كولفيتس أن هذه المرأة كانت تركز بشكل عميق على صورها الشخصية، فتظهرها داخل العمل الواحد بألوان غامقة العتمة، ويهيمن عليها الإحساس بالغموض، فتبدو الأشكال مشوهة أو عارية تظهر من توجهاتها نحو المقاومة والمواجهة.. إنها تحافظ على معناها الكابوسي الذي هو الحال المعاش، ومن ثم تقيم ترابطاً بين الواقع وكيفية التعبير عنه. إنها أيضاً تحاول دوماً أن تحدد حقيقة السنوات على ملامح الإنسان، وخاصة الحزن والتعب وربما هذا يعود لرحيل ابنها الذي جعل هذه السوداوية ترافق أعمالها الفنية طيلة حياتها، حتى أن بعض صورها الشخصية التي اشتغلت عليها بنفسها تبدو بعمر واحد، وكأن سنوات عمرها قد توقفت بالضبط في الوقت الذي رحل فيه ابنها.
تقترح كولفيتس دوماً عملية الهدم بداخل الإنسان عبر رسوماتها، ولكنها ترفض أو بمعنى أصح تنسى عملية البناء التي من المفترض أن تواكب الهدم.. يتعلق البناء بمسألة النسيان، ولأنها لم تتمكن من نسيان ما واكبته خلال مشوار حياتها من مآسٍ وأحزان وفواجع فحتما ستكون فكرة البناء هنا مزيفة، وأما الهدم فأنه الفعل الأكثر منطقية لتقديم حلول فلسفية تبرر ما يحدث حتى نتمكن من تقبلها بشكل طبيعي. وهكذا نعثر على الكثير من المفاهيم الواقعية المتعلقة بوجوه عابسة متعبة، وأجساد لا قدرة لديها على الحركة، وأفواه فاغرة وغيرها صامتة، وعيون دامعة، وأطفال مرضى وموتى، وهناك من ينبش التراب بينما راح غيره يحفر ويردم وكأنها تجسد صورا عن عبثية الوجود واللا جدوى لمن لا قوة لديهم أو امكانية اقتصادية أو صحية للاستمرار في الحياة، فبدو وكأنهم الوجه الآخر لعالم بشع نحاول دوما تجاهله.
تعبيرية كاتي كولفيتس تجمع بين ما في داخل الإنسان وعقله من رغبة بالتحرر والخلاص وما بين الواقع وجسمه وحركته، وهذا ما يميز أعمالها المخططة بقلم الرصاص باللون الأسود.