بين السَّياب وزُهور حسين

ثقافة 2024/12/24
...

  حسين محمد عجيل 


لا شكّ في أن السياب سمع صوت زهور حسين من دار الإذاعة التي أخذت تبث أغانيها الغارقة في الشجن منذ الأربعينيات. ولا شك، أيضًا، في أن المُطربة سمعت باسم الشاعر، ورُبما قرأت قصيدة له في إحدى الصحف، أو تناهت إلى سمعها مقاطع من قصائد تداولتها الألسن بعد شهرته الطاغية في الأوساط الثقافيّة العراقيّة والعربيّة في العقد الأربعينيِّ نفسه، عقْب إحداثه هو ونازك الملائكة زلزالًا في الشّعر العربيِّ والذّائقة الجماليّة في تلقّيه، الرّاسخة تقاليده مُنذ أكثر من خمسة عشر قرنًا. 

وربّما كان السَّيّاب سيُقدِّم لزُهور حسين قصيدة من الشّعر الشَّعبيِّ، تصلح أن تغنّى، لو أنه واصل تجارب مراهقته ومطلع شبيبته في كتابة هذا النّمط من الشِّعر. ولو حدث هذا لجاءت على الأغلب مترعة بالألم، فقد عاشا كلاهما، في فنِّهما، للتغّي بالحُزن العميق، والتّعبير عن هول آلامه، حتى اقترن بهما فتماهيا فيه ومعه. 

تجسد هذا في أكثر من مُشترك بينهما، ومن ذلك الارتباط بالأم الّتي ارتحلت إلى أبديِّتها من حياة الشّاعرِ- حقيقة- فظلّ "يلجُّ في السُّؤال" عنها هذيانًا في الطُّفولة وشعْرًا فيما بعدها، وارتحلت- مجازًا- من حياة المُطربة المُهاجِرةِ "غريبةً" وراءَ أحلامها، فقالا فيها مُنفردينِ- بقصيدةٍ ذائعةٍ له يحفظها طُلّاب المدارس، وأغنية شهيرة لها يُردِّدُها الحَزانى والمَكْلومون- ما ظَلَّ خالدًا في ذاكرة من كانوا يُسَمَّوْنَ (ذوي الرُّؤوسِ السُّوْدِ) في عصرِ السّومريِّين، فصيَّرت المحن والنّوازِل والأهوالُ أيّامهم سُوْدًا ورؤوسهم بِيضًا. 

وُلدا في مُنتصف عَقْدِ العشرينيّات من القرن الماضي، على أرجح الأقوال، وذاقا مرارة اليُتْم المُبكِّر على اختلافٍ في صفة الرّاحِلَيْن. وفي شَرْخ الشّباب انطلقا في رحلةٍ مجهولةِ المُنتهى إلى واهبةِ الفُرَص لذوي المواهب النّادرةِ، العاصمة المُنفتحة على العالم بتوجُّهاته المُتعارضة وتشابُك تيّاراته. جاء هو من أقاصي الجنوب، وهي من الفُرات الأوسط، بحثًا عن إثبات الذّات وبُلُوغ تُخُوم الحُلم بتحقيق المجد، وبرغم شراسة المُنافسة وامتلاء السّاحة بالقامات الرّاسخة في مجاليهما، حقّقاه سريعًا، أسرع ممّا ظنّا أو توقّع لهما أكثرُ المُتفائلين، لكنّهما لم يسْعدا به، إذ رحلا وقد التفَّتْ دائرة عُمر كُل منهما حول الأربعين عامًا، كاد الشّاعر أن يُقاربه فيما لم تَكَدْ تتجاوزه المُطرِبة، في ظاهرةٍ عراقيّةٍ شاركَهما فيها كوكبةٌ من النُّظَراءِ في تاريخِ الأدبِ والفنِّ بالبلاد، أمثال: محمود أحمد السَّيِّد الرّائدِ القَصّصيِّ الّذي تُوفِّيَ بالقاهرة مَكْبُوْدًا وهو في الرّابعةِ والثّلاثينَ، وجَواد سليم الرّائدِ التّشكيليِّ الّذي رحل مَفْؤُوْدًا- وهو في الثّانيةِ والأربعينَ- قبل أن تكتحلَ عيناه برُؤيةِ نُصْبِ الحُرِّيّةِ مُكتمِلًا، وناظِم الغزالي مُجدِّدِ الغناءِ العراقيِّ وسفيرِه الرّاحلِ وهو في الثّانيةِ والأربعينَ، والشّاعرِ المُتألِّمِ عبد الأمير الحصيري ذي السّتةِ والثّلاثينَ ربيعًا غيرَ مُزْهِرٍ.. 

ولكن ما الّذي يجمعُ بين مُطربةٍ فِطْريَّةٍ مسَّتِ الوجدانَ الشَّعبيَّ للنّاس بفرادةِ طبقاتِ صوتِها ورُوحِ الفجيعةِ المُتسرّبةِ منها، وشاعِرِ الحداثةِ الأوَّلِ في مقاييسِ عصرِه، الّذي كان الأسى ينسابُ كالمطرِ من ميازيبِ قصائدِه؟ كان من المُثيرِ اكتشافي أنه مثلُ هذا اليوم من سنة 1964، فقد كان يومُ الخميس 24 كانون الأوّل من ذلك العام هو الأخيرَ لهما في عالمِنا، وهو الرّابطُ الّذي جمعهما إلى الأبد في واحدةٍ من الأقدار الغريبة، التي سجَّلتها الصُّحفُ والكُتبُ لغياب الشّاعر، وبعضُ مَن أرَّخَ لوداع المُطربة. 

جمعَ التّاريخُ بينهما على هذا النّحْوِ المُفجعِ مُتشارِكَيْنِ في يومِ الرّحيل نفسِه، وفرّقتهما جُغرافيا الخُطوةِ الأخيرةِ، وأسبابُ وداعِهما الدُّنيا وهُما في الذُّروةِ من أوانِ العطاء، فلقد ذَوَتْ زُهورُ المُطربةِ، فتُوفِّيتْ مُتأثِّرةً بجُروحٍ غائرةٍ تسبّبت في غيبويةٍ عن الوعيِ امتدّتْ لبضعةِ أيّامٍ في مُستشفًى بمدينة الحِلَّة، جرّاء حادثةِ سيّارةٍ على الشّارع الرّابط بينها وبين مدينة الدّيوانيّة، فيما لم يكتملْ بدرُ الشّاعرِ في ليلتِه الأخيرةِ، فلفظَ آخِرَ أنفاسِه في المُستشفى الأميريِّ بمدينة الكُويت، بعد رحلةِ علاجٍ مُتعثّرةٍ ما جادت سوى بالعذابِ والقصائدِ، وكان المطرُ ينهمرُ بغزارة غيرِ معهودةٍ يومَ دَفَنَهُ بضعةُ أشخاصٍ على عجل في مثواه الأخير بمقبرة الحَسَن البصريّ.