أ.د. باسم الاعسم
من فضائل الجلسات النقدية التي تلاحق العروض المسرحية، في المهرجانات، إلقاء الأطروحات النقدية الواعية، بقصد تقويم العروض، بعد تأشير مواطن الجمال، والقبح فيها، أو القوة والضعف، لإنتاج نصوص نقدية إبداعية، توازي من حيث قيمتها الأدبية، والجمالية، والنقدية، النصوص، أو العروض المنقودة.
من هنا ندرك أن النقد علم، وأدب، وفن، والناقد منظر جمالي، ونقدي، يتوفر على مؤهلات عدة، منهجية، ولغوية، ذو قيمة، تؤهله لخوض غمار النقد بجدارة، تمنحه القدرة على قراءة خطاب العرض المسرحي، بعين فاحصة، وعقل متوثب، وروح مسالمة.
لذلك، فإن الذي يتصدى للنقد، لا بد أن يكون مولوداً من رحم الخطاب المسرحي، عارفاً بمذاهبه، وتياراته، وأساليبه، وأنساقه، وحيثياته، كيما يكون على بصيرة من أمره، وإلا فلا مستقبل له، ولا أهمية لما يكتب، ولا يمكن عده ناقداً، إذا ما افتقر إلى مؤهلات الناقد الكفء.
لقد كشفت مسيرة النقد المسرحي طوال عقود خلت، عن مفارقات، واختراقات، وانتكاسات، انعكست بنحو سلبي، على مسار النقد المسرحي، إذ ولج عالم النقد أشخاص قدموا من دنيا الصحافة، والأدب، فتمحورت نقداتهم حول نصوص العروض، ولم تحفر في بنية خطاب العروض المسرحية، وأنساقها، السمعبصرية، بل كانت في الأغلب الأعم مقالات وصفية، تفتقر إلى الخبرة، والصنعة، والدراية، والمنهجية، وتطوف حول العروض، من دون أن تغوص في أعماقها، فوسمت بالآراء والنقود الوصفية أو السطحية.
في حين أن الناقد الرصين يكتب بأسلوب متين، ولغة متوهجة، ومعرفة تفصيلية بمكونات، ومكملات العرض المسرحي، فينتج نصاً نقدياً، متوفراً على اشتراطات النقد المكتمل، ولهذا نجد أن النقاد الأكفاء في شح دائم.
لقد اتضحت مسؤولية النقد، وأهمية الناقد في الجلسات النقدية التي عقدت في مهرجان بغداد الدولي للمسرح، الدورة الخامسة، دورة المخرج الراحل الدكتور شفيق المهدي، إذ كان للأوراق النقدية التي قدمها النقاد المكلفون بالتعليق على العروض المسرحية، الدور الكبير في تبصير الحضور بحيثيات العروض المسرحية، على وفق قراءات متبصرة، ذات تباينات أسلوبية أملتها، طبيعة قدرات النقاد، وخبراتهم، ومستوى إدراكهم، فضلاً عن أن الجلسات النقدية قد أتاحت الفرص للحضور في التعبير عن وجهات نظرهم إزاء العروض المسرحية، فكانت الجلسات ممارسة ثقافية ومعرفية ذات سمة ديمقراطية، تبيح للآخر، حرية إبداء الرأي الآخر، سواء كان مؤيداً، أو معارضاً للعرض، أو لأسلوب المخرج المسرحي.
ويبقى الأمر متاحاً للمخرج، أو المؤلف، ومدى قناعتهما، والتزامهما بملاحظات النقاد، والجمهور على حد سواء، لكن الأهم، هو بقاء الجلسات النقدية، بوصفها ميداناً، ثقافياً لتبادل الآراء النقدية، التي بالضرورة تكون متباينة، نتيجة لتباين الوعي، والفهم، والخبرة، والذائقة.
ولذلك تعد الجلسات النقدية من الفعاليات المغذية للجدل، والتواصل مع الآخر، عبر الحوار، الذي ينعش الاتصال الفكري، والجمالي، ويمهد الطريق لخلق تقاليد نقدية متحضرة، تعد الأساس المتين في تأسيس حركة نقدية، متطورة، تؤشر ملامح التجديد في خطاب النقد المسرحي.
ولقد كان للنقاد المسرحيين، الأكاديميين، أعضاء رابطة نقاد المسرح، الأثر البالغ في إضفاء صفة الرصانة على الجلسات النقدية، عبر قراءاتهم الواعية، وتحليلاتهم المتبصرة للنصوص، والعروض على حد سواء، فتولدت الانطباعات لدى الحضور بأن النقد خير سلطة عادلة على الأدب والفن عامة، والنقاد رسل الثقافة، والمعرفة، والنقد، المدافعين عن رصانة العروض، وهيبة النقد في الآن نفسه، من دون مآرب شخصية، سوى الحرص على تشييد تقاليد ثقافية، ونقدية، متحضرة، تسمو بالحراك النقدي والمعرفي.
إن أهم ما يرتقي بالجلسات النقدية، هو النقد المجرد من الضغائن، والأحقاد الشخصية، والدوافع القصدية المبيتة، فجميعها لا تمت إلى النقد البناء بصلة، بل تنتمي إلى الانتقاد الهدام، وهو أمر غير محمود، عندما تتحكم الأهواء، والمحسوبيات، والإخوانيات، بالنقد، الذي هو أسمى، وأجل من كل الاعتبارات اللانقدية، بوصفه حقلاً، معرفياً، وثقافياً رصيناً.