د.جواد الزيدي
من أجل استمرار فعالياتها السنويَّة وانتظامها، وبعد انشطار المعرض السنوي إلى معارض تنضوي تحت لائحة الأجناس الفنية، أقامت جمعية التشكيليين العراقيين في الرابع عشر من شهر كانون الأول لهذا العام معرضاً تخصصياً للنحت العراقي وهو آخر برامج هذه السنة، شارك فيه (57) فناناً وفنانة من مختلف أرجاء الوطن وبواقع (65) عملاً نحتياً تميزت في أساليبها وتقنياتها وخاماتها، تبعاً لاشتغالات الفنان ونهجه الذي يتبعه أو يبتغية في المفارقة الشكلية والمضمونية، أو طبقاً لفرضيات العرض والتوصلات الجمالية التي تفرضها اللحظة الراهنة في النحت العالمي المعاصر، وانسجام الفنان العراقي مع تلك التوصلات أو اللحاق بها والتعبير عنها في ضوء ما متوفر من خامات ورؤى يمكن أن تتسق أو تتجاوز مع المعطى المتحقق.
احتفى المعرض بتجربة النحات الرائد صادق ربيع، بوصفه ضيف شرف على المعرض تقدمت تجربته معروضات هذه الفعالية النحتية، إذ تميزت في الخامة البرونزية التي تناولت موضوعات إنسانيّة استطاع الترميز لها وبمعالجات بعدية أضفى عليها لون التركواز. بينما تداخلت الأساليب والخامات والأجيال، فضلاً عن الجنس البشري من خلال مشاركة متكافئة للفنانات مع الفنانين من دون التجاوز على المستوى الإبداعي، حيث اكتمال الأغراض الفنية والجمالية في جميع المعروضات مع فروقات فردية تفرضها التجربة الشخصية لكل المشاركين وتكريس تجارب البعض عند المقارنة مع الآخرين من أجيال شبابية تمتلك الموهبة الساعية لتكريس الانموذج النحتي في الأيام القادمة.
لقد كانت تجارب (منذر علي، وطه وهيب، وابراهيم ربيع، وباسم التكريتي، وعبدالكريم خليل، وعلوان العلوان، وعلي رسن، ومعتصم الكبيسي، ونمير الكناني) بمثابة صمام الأمان الذي يتمسك به الآخرون في ضوء تكريس التجربة واشتغالاتها الجمالية في مشهد التشكيل العراقي، على الرغم من تفرد كل منهم في الصياغات الجمالية واستخدام المواد الخام أو المدرسة التي يُؤمن فيها، وهذا ينم عن عدم الغرابة في تجارب ناشئة عن مرجعيات متعددة ورؤى فكرية تتسم في المفارقة الأسلوبية والصياغة الفنية. فمرموزات منذر علي التي تتجه نحو الجسد البشري الممشوق لها دلالتها إذا ما عرفنا أنه يتخذ من الخشب عنواناً تقنياً لعمله النحتي، بينما يحاول طه وهيب المواءمة بين الإنسان والموجود المحيط به في معادلة الوجود واستثمار ملامح البيئة المحلية في تشييء نصه النحتي، بما يخلق هذه العلاقة بين النص المرئي والمتلقي الذي يحاول الربط بين العلامة وموضوع العالم الخارجي باِعتماد رشاقة البرونز وجماليته في هذا التصير. ويحاول معتصم الكبيسي تكريس الأنموذج المرتبط في الذاكرة الجمعية برجل السلطة المنتشي وهو يرتدي معطفه الذي يشير إلى القوة ويجلس بقوة المتشبث على كريسه الكبير. ويتخذ عبدالكريم خليل نوعاً من المفارقة التي تقترن بالعمل على الحجر في تجسيد أشكاله البشرية التي تخفي ما خلفها من رمزيات، حيث يجلسها على كرسي ثابت الأرجل يمكن أن ينفتح على مناطق التأويل الواسعة. وهكذا يفعل علي رسن في محاولاته المتغيرة بحسب مقتضيات التعبير، وبما يلامس الحياة الاجتماعية وموجودات الكائن البشري، مضفياً على تلك الموجودات ألواناً ترمز في كل مرة إلى شيء يسهم في اكتمال المعنى. وهكذا يمكن قراءة أعمال (باسم التكريتي، وعلوان العلوان، وابراهيم ربيع، ونمير الكناني) التي تسير في تكريس الأسلوبية والمحتوى التي دأبت عليه عشرات السنين.
ومن أجل مواءمة المعطى الجمالي المعاصر يحاول كل من (رعد المندلاوي، وعقيل خريف، وعلي جلاب، وعمار النعيمي، ورياض عزيز، وسعد نايف، وعلاء البكري، وعاتكة الخزرجي) إلى استثمار المهمل والمهمش واليومي وتوظيفه داخل العمل الفني، حيث يتخذ المندلاوي من مسامير التثبيت أساساً في انشاء عمله النحتي بما يماثل الهياكل البشرية التي تلتحم ببعضها البعض لتكوين العائلة أو ايضاح مفهومها العام، بينما يحاول خريف تكريس هذه الصياغة عبر استخدامه مخلفات ماكنة الخياطة أو بعض أجزائها في تشكيل انموذجه النحتي، وهكذا فعل جلاب بمقاربات أخرى، في اللحظة التي اهتدى بها النعيمي إلى خامة أخرى يمكن الحصول عليها بسهولة لتحويلها إلى عمل نحتي تتداخل فيه مستويات القراءة من أجل الوصول إلى معناه الكامن داخل الشكل المرئي.
بينما تدور المحاولات المتبقية في مدارها الخاص، على الرغم من ثباتها الأسلوبي ونزوعها نحو خامات متعينة، إلاّ أنها تبحث من داخل التجربة نفسها عن حداثتها ونبوغها الجمالي، سواء إتخذت من "البرونز، أو الخشب" مادة أساسية في تصيرها الفني، كما في تجارب (هادي عباس، وميثم السنبسي، وجمال المختار، وهادي كاظم، وحسنين جهاد، ورملة الجاسم، وسلام المدامغة، وعادل رشيد، وعلي عبدالله، ومصطفى بهجت، ومازن منذر، ومحمد الشجيري، ومحمد المطلبي، وناطق عزيز، ونصير سعداوي، ولبيد نفل، وناصر الهنداوي، ومصدق مهدي، ومها فرحان، وثائر ابراهيم، ووسام الدبوني) وآخرين غيرهم، بيد أنهم حافظوا على طبيعة الخطاب المحتدم بالمعنى من خلال الشكل المرئي الذي اختلف في تشيؤه على هيئات مختلفة، سواء كانت بطريق التعبير الرمزي أو المجرد، ويحمل كل من هذه الأعمال معنىً مختلفاً طبقاً إلى آليات التشكل ومحمولات التأويل.
بينما حاولت تجارب أخرى تلمس الطريق إلى الجمال الخالص عبر مواد وخامات وآليات متعددة، سواء اتخذت من خامات "البرونز والخشب" أساساً في تشكلها أو باِعتماد المهمل واليومي، لكنها في النهاية تحمل قيم الجمال ومرامي التعبير التي يبتغيها فن النحت، كما في تجارب (كمال كريم، تحسين الجابري، زهراء علي، صالح الكناني، وقصي زين العابدين، وعلاء سمير، ولميعة الجواري، ونصير عبود، وفارس عبدالحسين) وآخرين وسعي كل منهم إلى تحقيق وجوده الفني وتسجيل اختلافه ومغايرته
البصرية.