هان كانغ في {النباتية}.. تشكلات سردية مغايرة وقراءة نفسيَّة لشخوص مأزومين
د. سلمان كاصد
من أجل كسر الأنساق الزمانية يعمد الروائي إلى لعبة تبادل الضمائر، وفق نظامين، المونوفونية (الصوت الواحد) وما يقابلها على الجانب الآخر البوليفونية (تعدد الأصوات)، وهذا ماصنفت به الرواية بتنظيرات" ميخائيل باختين" في دراسته لأعمال دستويفسكي. ما أطلق عليه بـ (الحوارية).
السرد بتعدد الأصوات وتغير الساردين يقود إلى التكرار من وجهات نظر متعددة، أي باختصار الاشتغال على البوليفونية، والتكرار هنا أربعة أنواع معروفة لدى نقاد السرد، لا نريد الخوض بها.
في رواية "النباتية" للكورية الفائزة بجائزة نوبل للآداب عام 2024 الروائية "هان كانغ" ثمة حدث يروى من ضمائر متعددة، مقسم إلى ثلاثة فصول هي:
الفصل الأول/ "النباتية"
الفصل الثاني/ "البقعة المنغولية"
الفصل الثالث/ "لهيب الأشجار"
يروى الفصل الأول بضمير المتكلم الذي هو الزوج "جونغ" وتطور علاقته بزوجته "يونغ هيه"، ويروى الفصل الثاني بضمير الغائب عبر الوكيل عن السارد كلي العلم وهو شخصية الفنان "جي" زوج الأخت الكبرى "كيم إن هيه"، ويروى الفصل الثالث بضمير الغائب أيضاً عبر الوكيل عن السارد كلي العلم وهو الأخت الكبرى "كي إن هيه". وبذلك يصبح الساردون ثلاثة، وهم "جونغ" و"جي" و "كيم إن هيه"، بالرغم من أن مجتمع الرواية يضم ثلاث "عوائل" مترابطة أسرياً وعدد أفراد هذا المجتمع المصغر يتشكل من الأب والأم والابنتين "يونغ هيه" الصغرى و "كيم إن هيه" الكبرى، بالإضافة إلى أخيهما وزوجته اللذين يبدو أنهما غير مندمجين، بفعل سردي واضح في البنية الاجتماعية للأسرة، وأخيراً زوجا الابنتين "جونغ" زوج الصغرى و"جى" زوج الكبرى، والأخيران يربطهما طفل لم يتجاوز السادسة من عمره واسمه "جي وو".
إذاً مجتمع الرواية لا يتجاوز "عشرة شخوص"، الفواعل منهم أربعة أفراد والآخرون شخصيات ساندة غير فاعلة سردياً، ويبدو تأثيرها عابراً.
تتلخص الرواية في (ص ١٦٦ و ص ١٦٧ و ص ١٦٨) حيث تعاد حكاية الأحداث جميعها بشكل مقتصب.
الحكاية تهدف إلى سرد ما حدث للزوج "جونغ" في الفصل الأول عندما وجد زوجته "يونغ هيه" في صباح يوم اعتيادي وقد تحولت إلى شخصية نباتية، وعند الاستفسار عن سبب هذا التحول المفاجئ تذكر زوجته، أنها حلمت حلماً كابوسياً، مرعباً عند مشاهدتها لحوما تقطر منها الدماء، فشكلت لها عقدة في مستقبل حياتها ولنتذكر مقولة "سيجموند فرويد"، "الحلم هو الطريق الملكي للاشعور".
تقول "يونغ هيه" وهي تعيد صياغة عبارة فرويد:
- كلما غبت عن الوعي كان الحلم. ص ٤٢
وهذا يلخص مقولة فرويد بأن الحلم يذهب إلى اللاوعي، وبذلك سنكتشف أن الحلم هو ما يضغط على لاوعي الشخصية.
حسنا.. في الفصل الأول يحتدم الصراع على المستوى الذاتي لا الاجتماعي حتى لتبدو هذه القضية "التحول إلى النباتية" ليست بالمشكلة الكبرى التي يمكن لها أن يتخلق منها نص روائي يرتكز على مفهوم ضاغط للصراع.
يشكل هذا الحلم مركز الرواية التي باتت تسرد تنفيذاً لفاعلية الحلم وآثره على "يونغ هيه" التي كما يبدو أنها تبتغي حتى لحظة اضمحلال جسدي بوصفه غايتها أن:
"تنزع اللحم عن جسدها" ص ٢٠٧
كما ينزع الثعبان جلده.
ومن هذه الرؤية الحلمية استمرت "يونغ هيه" في إصرار عجيب على اللا تأكل اللحم أو ما يمت للحيوان بصلة الذات أو الانتاج.
يحتج الزوج "جونغ" ص٣٦ على ما يجري لزوجته ويشكو الأمر لعائلتها، وفي جلسة عشاء يحاول الأب أن يلقمها قطعة من اللحم عنوة، فترفضها بإصرار مما يجعل الأب ينفعل ويصفعها بقوة، وحينها تمسك "يونغ هيه" سكيناً وتقطع وريد يدها، فيتفجر الدم إلى الأعلى ويحملها زوج أختها "جي" إلى المستشفى، وهنا نكتشف أن هذا الرجل يعشق "يونغ هيه"، فيحاول أن يقيم علاقة جنسية معها، وبالإضافة إلى ذلك نكتشف عبر سرده في الفصل الثاني أنه يكره زوجته.
السّرد والوصف
يتناوب السّرد والوصف في الفصل الأول من النباتية، غير أن السّرد يدخل في بؤرة الحكاية لحظة رمي الزوجة "يونغ" اللحم إلى الخارج.
خلال ذاك تتدخل بشكل مقتضب الروائية على لسان الزوج "اللغة تعجز عن وصف المشهد" ص١٦، ولذا في هذا الفصل نجد: أن هناك 3 نصوص سردية على لسان "الزوجة" وهو محصور في نجمات ثلاث في الاستهلال والخاتمة، وهو تضمين إرصادي بحسب "اوستن وارين ورينية ويلك" اللذين يعتبران تصنيفا من مدرسة براغ البنيوية، وكما جاء في كتابهما المشترك "نظرية الأدب".
نجد في هذا الفصل أيضاً وصفاً لتعدد أنواع الطعام الكوري الذي تعده الزوجة، ويأتي هذا على لسان الزوج وذلك يشبه ما فعله الروائي اللبناني ربيع جابر في روايته "دروز بلغراد"، وكأن هناك حركة سرديّة متناوبة مع الوصف، بما يمكن تسميته بالوحدات السرديّة الواصفة.
هنا يتولد صراع بين الزوج "حيواني النزعة" والزوجة "نباتية التحول"، حيث يبدأ سرد الأحلام التي شوهدت في النوم من خلال "يونغ هيه"، التي تبدأ بسرد 3 أحلام، وبذلك يضطلع سردها بالفنتازيا، بينما يظل الزوج سارداً واقعياً.
في هذه الرواية لا نجد معضلة اجتماعية، إذ لا وجود لصراع اجتماعي سوسيولوجي أو تصادم قيم، إذ كل شيء فيها بدا ذا طابع نفسي يذهب بالشخوص إلى الانسحاق في المصائر والهروب من مواجهة الحقيقة، حتى ليبدو أن ثمة علاقة غير منسجمة بل ذات طالع قاسٍ بين الأب وابنته الصغرى، وما أقدم عليه حين رفضت التجاوب مع أوامره بالأكل بالإكراه وضربه لها، وبالتالي ردة فعلها اتجاهه حيث قطعت وريدها مما جعل زوج أختها "جي" يذهب بها سريعا وهو يحملها بيديه إلى المستشفى.
ينتهي الفصل الأول لتتشكل لدينا مجموعة من الرموز والدوال لكشف علاقات غامضة ستتمخض بين: الزوجة الصغرى "النباتية" وزوجها والأخت الكبرى "بائعة الورد" وزوجها الرسام الذي يعشق الأخت الصغرى.
البقعة المنغولية
في الفصل الثاني "البقعة المنغولية" نرى السرد يتحول إلى ضمير الغائب، ويستهل بالعرض المسرحي والمسرود عنه "الزوج جي، الزوجة كيم إن هيه، ابنهما6 سنوات جي وو"، وكل ذلك بصوت الراوي الذي ينوب عن الزوج "جي". المسرود عنه هو رسام وفوتغرافي، يعشق جسد يونغ هيه الأخت الصغرى النباتية.
في هذا الفصل تتعدد وجهات النظر، فيبدو السرد أكثر وضوحاً بعد أن ختم الفصل الأول بما يمكن أن نطلق عليه بالتعمية المعلوماتية عن مصير الحكاية، لكي تستمر في تقدمها نحو نهايتها. ولذا نجد وجهات النظر بين "جونغ" زوج الصغيرة و "جي" زوج الكبرى في تبادل واضح في المشاعر والآراء: جونغ في "ص٣٤" يقول عن كيم إن هيه اخت زوجته الكبرى "إنها تشبه زوجتي لكن عينيها أجمل وأوسع كما أنها أكثر أنوثه منها".
جي في "ص٧٩" يقول عن يونغ هيه أخت زوجته الصغرى (النباتية) "شيء غامض متعلق بها منذ البداية يشعره بعدم الرضا، جاذبيتها وتكوينها الجسدي وهو عاشق الأخت الصغرى يونغ هيه" (ص٧٩).
تدفع البوليفونية إلى تعدد تكراري للسرد الواحد " إذ تسرد الحكاية (الحادثة) لأكثر من مّرة" وهي:
١- سرد الزوج جونغ: كيف دفع والد يونغ اللحم بفمها.
٢- سرد زوج الأخت جي: كيف دفع والد يونغ اللحم بفمها.
في هذا الفصل يكمل السارد (جي) مالم يسرد في الفصل الأول وهو:
١- دخول يونغ هيه مصحة عقلية
٢- طلاقها من زوجها جونغ
٣- طلب (جي) أن تكون يونغ هيه موديلاً لإحدى لوحاته (ص ٨٥).
المشابهة المتغايرة
هنا نستعيد رواية "السأم" للبرتومورافيا، حين كان البطل الرسام يصور "سيسيليا" العارية بوصفها موديلاً، اعتقد أننا نقترب من ذلك، غير أن الرسم هنا لايتم على لوحة، بل يتم على الجسد وذلك باعتقاد "جي" أن الرسومات طريقة نفسية للشفاء من الأحلام الكابوسية التي تعاني منها "يونغ هيه"، بوصفها رسومات مزهرة بأوراد وأغصان وورق الأشجار.
تحاول الرواية أن تبرر العلاقة الجسدية التي نشأت بين "جي" و" يونغ هيه"، على أنها فنية بعيدة عن الغرائز، حيث تدخل شخصية أنثوية وهي (ب) لتقول لـ (جي) "إنك تفتعل من إحساس الراهب إلى صور إباحية مباشرة" (ص١٣٥).
نجد هنا وفقا لصراع بدأ يتشكل أن (ب) أخذت تمارس مع (جي) نفس دور (جي) مع الأخت الصغرى النباتية (يونغ هيه).
ينتهي الفصل الثاني بغموض المصائر أيضاً مثل نهاية الفصل الأول، التي لم يصرح بها بوضوح.
عندما ندخل الفصل الثالث "لهيب الأشجار" نجد أن السرد ظل يروى بضمير الغائب عبر الوكيل الذي تضطلع به "الأخت الكبرى كيم إن هيه" حيث تذهب صباحاً إلى المصحة العقلية التي ترقد فيها أختها النباتية "يونغ هيه".
يبدو هذا الفصل أكثر وضوحاً، بل يلخص كل الرواية أولاً وتبدو خاتمته واضحة ثانيا وهي خاتمة الرواية الكلية.
انثيالاتها السردية
مع ركوب الأخت الكبرى "كيم إن هيه" الاوتوبيس، تبدأ انثيالاتها السردية تظهر بالتتابع، بين الحاضر السردي "الحيادي" والماضي السردي "الموقف"، غير أن نهاية الفصل الثالث/ نهاية الرواية، يندمج الحيادي فينسحب من الذكريات ليبقى الموقف مسيطراً على خاتمة الرواية، هنا تهيمن حادثة هروب "يونغ هيه" من المستشفى (ص١٥٣).
خلال السرد الماضي نجد قصصاً مضمنة، تتوزع بين:
١- الاسترجاعات الخارجية
٢- الاسترجاعات الداخلية
ومن القصص المضمنة الخارجية (قصه مرض "جي وو" الطفل) "طفولة أختها المشابهة لطفولة ابنها"، وهذه في الغالب خارج الزمن الحكائي، "قصة حياة القرية والجرار في الظلمة".
ومن القصص المضمنة الداخلية "تذكر يوم إحضار يونغ هيه إلى المستشفى" (قصة حوار الطفل مع أبيه ص١٦٣) وهنا تلعب الروائية على أسلوب التعليل وتسويغ الحجج (ص ١٦٦) بنظام التساؤلات وتوجيه آخر للأحداث وهو نظام افتراضي لا غير، وخير مثال على ذلك، البحث عن دوافع تحول "يونغ هيه" إلى نباتية، ولولا هذا التحول لما انبثقت الحكاية برمتها.
هناك خطأ فني بتحويل اسم "يونغ هيه" إلى "سونغ هيه" يتضح في هذا الفصل كيف وصلت الاحداث إلى طلاق "جي" لزوجته "كيم إن هيه" وإبلاغ "كيم إن هيه" للشرطة بصدد العلاقة الجنسية بين زوجها "جي" وأختها يونغ هيه.
تذهب الساردة إلى خلق مفارقة جاذبة وهي تحول النباتية "يونغ هيه" إلى شجرة، وإن الشجرة تقف على يديها أشبه بإنسان مقلوب، وكل ذلك يجري حيث تتقيأ "يونغ هيه" الدم من فمها، بحسب رواية زميلتها في المصحة العقليه "هي جو"، (ص١٨٤).
يظهر أن الروائية قد أنهت روايتها بتغير في مسارها الحكائي، إذ بدا فصل لهيب الأشجار حكائيا، إخباريا أكثر وضوحاً، حيث تصل إلى مفهوم نفسي من أن "يونغ هيه" تود العيش على أشعة الشمس بعيداً عن طعام اللحوم كونها أصبحت شجرة.
في هذا الفصل يغيب الأب والأم والأخ وتحضر الأخت الكبرى "كيم إن هيه" فقط واسترجاعاتها الخارجية (ص١٩٢)، غير أن ما تؤكد عليه الأحداث:
١- غلبة عقدة الأب وصفعته للابنة الصغرى النباتية "يونغ هيه" لامتناعها عن تناول اللحوم (ص١٩٢).
٢- غلبه عنصر الدم، في الحلم ليونغ هيه والواقع لـ "كيم إن هيه"، (ص ١٩٧) حين تتذكر الأخت الكبرى الساردة، نزيفها الذي يبلل ملابسها الداخلية.
اللازمة السردية
تعتمد الروائية على ظاهرة سردية وهي تكرار عبارة "يمر الوقت" وهي تعد خلاصة كما في الفصل الثالث "لهيب الأشجار" إذ تكررت (5) مرات، وغاية ذلك تسريع السرد، والتنقل بعوالمه بعيداً عن التتابع الكورنولوجي عبر الاسترجاعات والاستباق الوحيد في نهاية الرواية (ص٢١٩) ويحصل ذلك التكرار في الصفحات (١٨٨، ١٩٠، ١٩٦، ٢٠٤، ٢٠٧).
تقرر "كيم إن هيه" أن شقيقتها الصغرى لم تذهب إلى أن تكون نباتية بقسوة، إلا لأنها تريد أن تنزع اللحم عن جسدها كما ينزع الثعبان جلده، وهي بذلك وصلت إلى مبتغاها وغايتها، غير أن الرواية ككل ما هي إلا محاولة لتحليل وتفكيك نظام المستشفيات العقلية في كوريا (ص٢٠٩).
يحصل - لمرة واحدة - استباق في نهاية الرواية عندما "تحلم" كيم إن هيه ب "جي وو" الصغير حين يكبر قريباً ليروي كل ما حدث. وهنا يظهر اختلاف واضح بين:
١- حلم (يونغ هيه) متشائم تدميري.
٢- حلم (كيم إن هيه) مستقبلي متفائل، إنشائي، تشييدي، بنائي، غير أن مأساوية الرواية تتضح حين تبعد (كيم إن هيه) طائراً أسود يحوم في الغيوم في سماء قاتمة بينما سيارة الإسعاف التي تقل الأختين على الأرض في طريقهما لمستشفى المدينة الذي لا طائل من الذهاب إليه إذ قاربت (يونغ هيه) على الموت.