أحمد جليل الويس
تتجه بوصلة السياسة الاميركية إلى المواجهة المباشرة مع أعدائهم المفترضين، ولاسيما عند الجمهوريين الذين يؤمنون بمنطق القوة، بغض النظر عن طرفي المعادلة، ومن هنا يمكن أن نقرأ توجه الجمهوريين بعد مجيء ترامب وقراراته غير المتزنة تجاه العالم بشكل عام، والجمهورية الاسلامية في ايران بشكلٍ خاص.
ما يدور في أروقة السياسة الاميركية اليوم يبدو أنهُ مخططٌ يجري العمل عليه منذ فترة، وهو تجديد معاهدة سايكس بيكو القديمة برؤية أميركية جديدة، تستندُ إلى أسسٍ اقتصادية وسياسية وعسكرية أيضاً، ويجري ذلك في إطار تحجيم العدو التقليدي عن طريق السيطرة على منابع الطاقة في الشرق الأوسط، وتحييد وتحجيم مرتكزات نفوذه في المنطقة، وفي الشرق الاوسط يبرز العداء التاريخي العلني بين أميركا وايران بوصفهما ندين وطرفي الصراع الذي بدأ منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.
هذا الصراع ليس مجانياً بالنسبة لدول المنطقة بشكلٍ عام، فالعراق يدفع كلَّ يوم ثمناً للمواجهة الأميركية الايرانية، وعلى مختلف الصعد، لأنَّ وجهة النظر الاميركية للعراق بعد مجيء ترامب تنظر إلى العراق بوصفه الحلقة الملفوفة على عنق العدو التقليدية ولا بدّ من مسك هذا الحبل بقوة من قبل الادارة الأميركية أو السيطرة عليه بإحكام على أقل تقدير، ولذلك يمثل العراق في نظر الأميركان نقطة مهمة للسيطرة على العدو، بينما ينظر الايرانيون الى العراق بوصفه نقطة انطلاق لكسر الإرادة الأميركية في المنطقة برمتها، ولذلك تقدم دعمها اللا محدود لحكومته بغض النظر عن طبيعتها الثقافية ومرجعياتها الايديولوجية، والغرض من ذلك كله هو ضمان الحياد على أقل تقدير في معركتهم غير المسلحة ضد
إيران.
المشكلة التي يمكن أن تؤشر صعوبة الوضع العراقي هو أنَّ التعددية التي نشأت عقب سقوط النظام الديكتاتوري والاحزاب التي تشكلت وما زالت تتشكل تعدُّ خطراً حقيقياً في مستقبل الصراع إذ لم تتعامل الأحزاب العراقية المتشكلة بعد 2003 والتي شاركت في عملية الحكم بخطاب سياسي واحد، بل اعتمد كلُّ حزبٍ على مقاربات وأفكار وقيم تؤثر في طبيعة الحزب وطريقة تفكيره ومرجعياته الثقافية والأخلاقية والسياسية.
لعبت المصالح والميول والاتجاهات دوراً كبيراً في الاصطفافات الحزبية الداخلية التي تشكّلت على وفق الصراع الاميركي - الايراني، فمن هو عدوٌ لأميركا أو يتخذ منها مثالاً للدول الرأسمالية أو الاستعمارية التي تحاول أن تتدخل في مقدرات الشعوب وتهيمن على مقدراتها إلتف مع المحور الإيراني ومن معه من الدول الأخرى كروسيا والصين، بينما هناك من يرى أن الجانب الإيراني يمثلُ عدواً مستقبلياً للعراق بما تمثلهُ النزعة الايرانية من ثنائيةٍ قاسية وغير عادلة حسب وجهة نظر هؤلاء تتمثل تلك الثنائية بتصدير الثورة والسيطرة على الثروة، وهو ما يرفضه هؤلاء، ومن ثم فإنَّ أصحاب هذه الفرضية يصفون مع المعسكر الأميركي، والمشكلة الأعقد أن طبيعة هذه الاصطفافات لا تستند إلى الإثنية او العرقية أو الديانة أو الطائفة، بل على المصالح المستقبلية التي يفكر بها قادة هذه الاحزاب وكوادرهم المتقدمة، في الوقت نفسه يحاول بعض قادة الاحزاب المعتدلة النأي بالبلد.
المشكلة التي تحيِّرُ المواطن العراقي اليوم هي تضارب التصريحات من قبل قيادات الاحزاب بمختلف تشكيلاتها، فما أن تنشأ مشكلة حتى يتبارى الساسةُ بتوريط الجهات الخارجية بها، سواءٌ أكانت حقيقية أم مزيفة، مباشرةً أم غير مباشرة، وطالما يطالعنا الاعلام بمانشيتات وعناوين تجعل من العراق ساحة لتصفية الحسابات الأميركية - الايرانية بغض النظر عن إرادة الجماهير العراقية، وهو ما يجعل المواطنُ مشغولاً بتلك التصريحات باحثاً عن الروابط التي يمكن أن تحقق هذه الفرضيات دون جدوى، ومن هذه المواقف المحيرة الكبرى هي انقسام المواطنين الذي أوجدتهُ الأحزاب السياسية في الداخل العراقي بشأن عمليات التحرير التي شملت نحو خمس محافظاتٍ عراقية وهي كل من ديالى، الانبار، صلاح الدين، كركوك، المواصل، إذ يتفق بعضُ المواطنين أنّ جهود التحالف الدولي قد أسهمت كثيراً في الحد من خطر هذه العصابات ودحرها نهائياً بتحرير الجانب الايسر من الموصل، بينما يرى بعضٌ آخر أنَّ السبب الحقيقي في انتصار العراق هو وقوف الجمهورية الاسلامية في ايران مع العراق بالعدد والعدة وتقديم ضحايا من قياداتهم في هذه الحرب التي استمرت ثلاث سنين، وما غذى هذه الافكار هو بالتأكيد وجهات النظر الحزبية المتأثرة بطبيعة الصراع الأميركي - الايراني، على الرغم من أنَّ السياسة الخارجية لكلٍّ منهما غير معنية بما يعانيه الشعب العراقي، وما يريده أو يحلمُ بتحقيقه.
ويمكن أن تكون هناك فرصة كبيرة لتصحيح مسارات الأحزاب السياسية التي تميل إلى هذا الطرف أو ذاك في ظل فرضية انعدام المواجهة المباشرة بين الطرفين لأنَّ كلَّ طرفٍ منهما يمتلك نقاط ضعفٍ مكشوفة أمام الطرف الآخر بينما نقاط القوة مخفية عن بعضهما، وهو ما يؤشر أن المواجهات المباشرة بينهما قد لا تحدث أصلا.