حقائب مسكونة بالضجيج تتشبث بالخواء
رنا صباح
يشدنا القاص كاظم جماسي بفطنة مجازية متقنة في مجموعته القصصية "حقيبة مثقلة بالهراءات" لاويا بصيرتنا لتفقه دلالات عنوانه بما انه هوية النص الكاشفة لمتنه، وبتنوع تراكيبه اللغوية، يظل أداة تربط القارئ بالنص القصصي، ويشكل حبل الوصل بين الكاتب والمتلقي، وبقدر ما تكون العناوين مربكة في تركيبها النحوي، تكون أكثر إثارة للقارئ وأقدر على شده، ليغوص في أعماق النص مدفوعا في بعض الأحيان بشغف إلى تجاوز بعض الحيرة و الإرباك اللذين يحدثهما العنوان. وهو هنا جملة اسمية تامة بدأت بلفظ "حقيبة" وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هذه" وكلمة "مثقلة" جاءت وصفا لجملة المبتدأ والخبر وتبعها الجار والمجرور، لتتشكل لدينا جملة عنوان كاملة تفصح عن أن الحقيبة هي الرأس المحمل بالأوهام، الفكرة التي تبنتها قصص المجموعة بأكملها.
إن الجماسي يقف عند مفترق طريقين، فجذور المحاولة لتفريغ حقيبته من أوهامها على الورق يمتلكها بصدق وعنفوان، ولكن الانجراف في تيارات الشكل الغامض قد جعلته ذا ارضية متذبذبة ما بين تشخيص الالم والتمكن من ثقله وبين البوح بضمنية عالية داخل نصه، حتى يتشكل السرد عنده ظاهرة غير صريحة وغير كاشفة عن شوائبها.
قد تأخذ الفكرة عند جماسي أوجها متعددة من ناحية التطلعات والأمكنة، وهي في قصتيه "سحر، وحقيبة مثقلة بالهراءات" تنبثق في وجودها من تضمينها الميتافيزيقي، الذي يشي بخلاصة مادية لوجود الثقافة العبثية والفكر اللا ملتزم ومحاولة إيجاد بعض الروابط بين المأساة المتخيلة العميقة والوجود الواقعي لإنساننا وهي بحق عملية جدية لتصوير عمر الإنسان وما تزود به في حقيبته، ففي الأولى كانت السجادة المحاكة دالة كاشفة عن عمر الإنسان وكيفية اتقان رسمه من فعل في أيامه التي عاشها مقارنة بصديقه المترف الذي كان ينظر لتلك السجادة، وهي تطير في كناية لفعل السحر واصفا صورة الاندهاش، الذي تحمله لأثرها الكبير والعظيم، وفي الثانية اتخذ من حوار الأزمان وسيلة لتفريغ حقيبتين، إحداهما لامرأة في الخمسين والثانية لرجل كبير السن بعد قيام طفلين في محطة القطار بفتح الحقيبتين وإخراج محتواها، وقد ضم جثث احلام متفسخة وآمال يظنها الظمآن ارتواء وثقة عمياء ارتطمت "بكونكريت"، النكران وشهوات وحرمانات، وغير ذلك الكثير من الأوجاع، التي تخاطب الإحساس بشكل مكثف لكنه لا يقودنا إلى شيء جوهري، سوى أنه يحمل انسياقا فنيا مؤثرا، وهو يبحث عن العمق الفكري لحجم الخسارات لكنه اصطدم بصخرة صلدة تجسدت بلا جدوى البحث أيضا ذلك أن "قطار الأبدية"، غير معني بالبحث ولا توقفه الاكتشافات.
ثمة علاقة قوية بين السطح والأعماق. هذا ما تقوله كل الأشياء التي نعيش بينها ومعها. تلك العلاقة يقف بينهما سلم من الوهم، من الوعي، من الحس الشديد الإرهاف، يسهل لنا فروض الصعود والهبوط. بكمية من الجهد متساوية، وبنفس اللهاث الحاد، الذي تتطلبه تلك الفروض التي يحكمها في قصة "اللارجع" تراجيديا اللاجدوى مع الفقدان. إلا أنه يظل هناك رغم فقدان لحظة المعرفة في كوننا نصعد أو نهبط،، إذ يظل فاصل الوعي في التمييز بين الحالتين شاخصا، ويفصح عنه هنا جذع شجرة التفاح اليابسة ونسغها وهو يستذكر العاشقان اللذين قضما قضمة تسببت في تورد وجنتيهما في تناص بارع مع قصة آدم وحواء.
لم تفارقنا الفنطازيا وهي تقدم صنوفا للموت لا تعد من مشاعر خوف واستهجان للحروب في قصة "طار ولم يعد"، وهي تشكل ارتباطا بالواقع عن طريق الاحداث الاوكرانية البولندية في مشهدية تزاحم الناس على الحدود، ومن ثم مشهدية وابل الرصاص، الذي انداف مع سلالم شقة الزوجين وهما يتابعان التلفاز فنعلم أن البطل يعيد لأذهاننا حقيقة أن هذا الواقع المتحول، والمتجدد، الشديد الحركة، ليقف وحده حاجزاً منيعاً أمام تدفق المشاعر، التي يستشعرها هو بنفسه لتنتهي بتساؤل من قبله: أتكون قصتي، اللحظة، قد اكتملت؟
وفي طريقنا لتتبع عوالم الفنطازيا تكاشفنا قصة "قبض ريح" بتجربة البطل الذي جسد تجربة إنسانية عامة للشباب الذي يعاني من غول الحرمان الجنسي وكبح الشهوات بطريقة منسحقة، تكشف عن خواء العالم ولا معقوليته وفقدانه لليقين والتوازن، لذا يسقط البطل في كهوف الضياع والعبث والانسحاق وبالتالي الانسلاخ التدريجي من الحياة البشرية والاستغراق كلية في البحث الحدسي استجابة لصوت ميتافيزيقي سرابي، إن البطل هنا يفشل في إقامة علاقات تفاعل متبادلة مع عالم الإنسان في محاولة لحل أزمته الخاصة جدلياً، بل هو يتردى في "هروب" من الحياة على حد تعبير أحد أبطاله في رحيل عبر الحلم الميتافيزيقي بعد تناقص الصيادين إلى أن وجد نفسه الصياد الأوحد.
هناك تطلع آخر للقاص وهذا التطلع يتحدد في المفهوم الوطني أو الإنساني، و" الوطني" هنا ليس السياسي بل الارتباط بهوية وطن معين، فتكون أفكاره ملازمة لذلك الارتباط الذي خصص له القاص ثلاث قصص ثيمتها ثورة تشرين وهي "كتاب الأبرار، وابل من ضوء، انشودة وطنية" وفي القصة الاولى والثانية كانت موضوعة الخلود ونصاعة الأثر تستأثر بعالم القصة السردي، اما في الثالثة فهناك بعدا سورياليا لمشاركة فئات المجتمع الاحياء والأموات مع ذكر لأسماء نماذج تسمو بأدبها وثقافتها، وهي تشارك الحشود سمفونية الثورة ممن كان لهم باعا وطنيا وثقلا تاريخيا من مثقفينا امثال ابن منصور الحلاج وحسين مردان والحصيري وجان دمو وكزار حنتوش وغيرهم وكأن الجماسي أراد التزاوج الفني بين المذاهب الادبية في بطل واحد متعدد الوجوه متوحد في المصير.
وإذا أمعنا النظر في قصص الجماسي نجد أنه يحفر في الواقع العراقي، ويحاول البحث عن أساليب جديدة يدين فيها هذا الواقع المُرّ، كما أنّ أغلب شخصياته القصصية تتعطش للسعادة والحرية والأمن والطمأنينة، وتستهجن مظاهر القسوة والظلم واستلاب الإرادة الإنسانية والحرية الفردية، التي يتعرض لها الفرد حتى على مستوى الطفولة ففي قصة "حلم غض" طفل يخرج من بين الانقاض حالما ببيضتين ان تفقسا في يديه، وفي قصة "نرد بوجهين" يسلط الضوء على اسير يعود بعد سنين ليجد زوجته قد تزوجت من أخيه وانجبت منه فتتوقف لديه الحياة ويموت في داخله الأمل وهو يعبر عن ذلك بجملة "عش يومك"، التي يرددها على بائع الالعاب المستعملة، وتلك قصة مرت علينا في واقعنا المعيش كثيرا ذلك أن الحجة المرجعية للكتابة، أيا كان نوعها وخصائص قولها، تكمن في مدى انخراطها الفني في إعادة بناء وتفكيك راهنها الاجتماعي والإنساني والفكري والوجداني والحضاري، المجسد بالفعل لا بالقوة في وتيرة الواقع المادي المشهود في حياة هذا المجتمع أو ذاك من موقع المبدع المتميز، الذي بقدر ما تقهره ظروف راهنه ينفصل عنها أو يجتث منها، بقدر ما يزداد اتصالا به وتواصلا معه وتجذرا فيه، ومن بين أكثر الأشكال الأدبية عموما وأشكالا في القول السردي، قابلية الاقتناص من هموم الواقع الذي يعيد المبدع بناءه على نحو حيوي، مركز ومكثف، يقوم على الاختزال في كل شيء: اختزال اللغة، مادة وأسلوبا ووظيفة، اختزال فضاء المكان والزمن والشخصيات، ثم – نتيجة لكل ذلك - اختزال الموقف والرؤية الفنية المقترحة وذلك نجده شاخصا في قصتين تصف حال المعتقل ايام النظام السابق في العراق وهما "ليلة فرار الجرذ، فيض من ضوء" والنصين فيهما إعادة اكتشاف اللحظة مع الانفتاح على دلالات كثيرة، خرجت من موقف معتاد في القص، لكنه تضمن إعادة الاعتبار للخيال وللأحلام من خلال البحث المستمر عما وراء الظاهر والمألوف.
بدا لي وكأن الجماسي، وهو يلتقط تلك اللحظات، يحارب رتابة التكرار، وملل العادي، وسذاجة الوضوح، ليخرج أبطاله من دوامة العبث، والدوائر المفرغة، إلى كون متسع وفسيح. يمنحهم حياة إضافية، بعد أن فرمتهم ماكنة الزمن، ولا يعنى الكاتب بتصوير ذلك الواقع - بشقيه الفعلي والتخيلي - تصويرا تقريريا مباشراً، بل إنه يهتم بالتعبير عنه إبداعيا وجماليا من خلال دلالات رمزية ذات شفافية، سواء في التعامل مع اللغة بوصفها إنجازاً إبداعيا من جهة، أو التعامل مع العنصر المكاني من جهة ثانية، أو العنصر الزماني من جهة ثالثة، ونلامس ميلاً من الكاتب نحو الموروث الشعبي، النابع من البيئة الريفية بوجه خاص، والتراث المعبر في قصة "إليزابيث وخريط فطيم العجيب" التي يعقد فيها الميتاسرد الصلة بين شخصيتي الملكة إليزابيث الثانية وفطيم أم تفكة، وفيها وصف لبيئتين وطقوسا لمجتمعين، معتمدا على الوصف والإخبار على اعتبار ما يراه" فيليب هامون" من أن الوصف ينتج في أغلب الأحيان عن التقاء شخصية أو عدة شخصيات مع بيئة معينة أو ديكور ما ومجموعة موضوعات. هذه البيئة تؤدي بدورها إلى مجموعة من الموضوعات الفرعية، المدونة التي هي بدورها تدخل في علاقة من خلال وحداتها الخاصة. وتبعاً لهذا فإن الوصف يقدم نفسه مجموعاً معجمياً متجانساً من خلال نبات الخريط ودوره الطبي ومكانته العلمية.
ولم تكن معاناة الفرد من الاغتراب في هذه المجموعة محكومة بتقنين فكري مسبق، وإنما تناول هذه المعاناة من حيث إنها قائمة في الأحداث والموضوعات الواقعية التي تتناولها القصص، وفي مشاعر ومواقف الشخصيات تجاه هذه الأحداث والموضوعات، ولم يستثن القاص نفسه ايضا ففي شهادته "غوايات وحتوف" يعبّر عن احساسه بالاغتراب من خلال تعبيراته التهكمية وهو يصف نفسه بعد رحلة الكتابة على أنه نطفة في عالم الأدب وبهذا الشكل تقف فيه الشخصية موقف المناقض للموقع المغترب فيه.