طاقةُ الوهم وجدوى الكتابة

ثقافة 2024/12/31
...

  محمد صابر عبيد

يعد الوهم أحد أهمّ الكشوفات البشرية ذات الطابع النفسيّ والوجدانيّ المؤثر جداً في استمرارية الحياة وإعادة صياغتها باستمرار، ولولا وجود هذا الكائن العجيب المسمى "الوهم" بطاقته الإنسانيّة الهائلة؛ ربما لتوقفت الحياة وانهارت وتضاعفت حالات الانتحار والبحث عن طرق كثيرة تؤدي إلى الموت، فبالوهم يمكن أن يصنع الإنسان لنفسه أبواباً ونوافذ واحتمالات وأكاذيب يفلت بوساطتها من أزماته التي لا تنتهي ولا تتوقّف

 ولعلّ هذا الإنسان ينفق نصف حياته يدور في حلقات من الوهم، ولا بأس في ذلك بالتأكيد طالما أنّ هذا الوهم هو شكل آخر من أشكال إكسير الحياة؛ من أجل أن يحتمّل أثقال العيش في وسط يضنُّ عليه بمزيد من الخيارات التي يمكن أن تنقذه من نوبات جنونه حين لا يجد متّسعاً للاستمرار.

لكنّ أخطر أنواع الوهم وأكثرها تأثيراً في رسم استراتيجيّة الحياة؛ هي تلك التي تتعلّق بالكتابة والتأليف والإبداع الفنيّ والأدبيّ، لأنّ هذا النوع من الوهم يضع صاحبه في حرج شديد؛ إذ تحتاج الكتابة الإبداعيّة في أصل تكوينها إلى موهبة واستعداد معرفيّ وثقافيّ ورؤية فكريّة أصيلة، وهذه لا تتوفّر إلّا في أناس قلّة جداً هم فئة المبدعين، وقد تتحمّل كثير من أعمال الإنسان وأنشطته في الحياة دخول طارئين يدلفون إلى مهن معيّنة لا يعرفونها؛ ثم يتلبّثون فيها وقتاً معيّناً في حقل التدريب والتجريب والممارسة حتى يتقنوا الصنعة وتسير الأمور في سبيل مناسب بلا مشكلات كبيرة، إلّا الإبداع فهو لا يقبل البتّة غير المبدع الحقيقيّ؛ مهما حاول هذا الشخص الطارئ على حقل الإبداع الادّعاء وفرض النموذج بما تيسّر له من السبل، وقد يحشد لهذا الأمر إمكانات كبيرة على مختلف المستويات بدافع من طاقة الوهم التي تتلبّسه، غير أنّه يستحيل عليه أن يصل إلى نتيجة يتمنّاها بأي شكل من الأشكال؛ لأنّ الكتابة الإبداعيّة فضّاحة جداً سرعان ما تكشف عن عيوبها ونواقصها وضعفها، فبمجرّد أن يقرأ العارف صفحة واحدة من المكتوب سيكتشف فضيحة الموهوم الطارئ على هذا الحقل النوعيّ الخاصّ.

ما جدوى الكتابة لشخص من خارج فضائها ولا صلة له بخصوصياتها وشواغلها وتعقيداتها وقضاياها وقواعدها وقوانينها الصارمة، ما جدواها لمن لا يتقّن أبجديّاتها ولا يعرف أسرارها ولا يحملها بوصفها حياة كاملة لا تقبل الشراكة، ما جدواها لم يهرف بما يعرف ويحسب أنّه يكتب أدباً حين يصفّق له من لا يعرف شيئاً عنها، على نحو يضاعف له طاقة الوهم ويدفعه للمضي في هذا المسار الخاطئ، مدفوعاً برغبة مشوّهة تتناقض مع معنى الكتابة بأبسط أصولها وتجلّياها وآفاقها الواسعة، والمشكلة أنّ الفضاء الثقافيّ الأدبيّ يعجّ بهذه النماذج حتّى لتكاد تهيمن على المشهد؛ بحكم ندرة الكتّاب الحقيقيين الذين يراقبون المشهد بسخرية واعتقاد راسخ أنّ الزبد سيذهب جفاءً، ولا يبقى على الأرض سوى ما ينفع الناس في نهاية المطاف من الكتابة العالية الأصيلة الخالدة، تلك التي تقدّم إبداعاً مكتظّاً بالقيمة الإبداعيّة الخلّاقة والعنفوان المعرفيّ الراقي، يضيف إلى التاريخ والجمال والإنسانية ما يجعلها أكثر إسعاداً للإنسان.

إنّ مثل هذا الوهم يسيطر بطريقة غريبة على كثير جداً ممّن يحسبون أنّهم يكتبون شعراً أو قصّة أو رواية أو نقداً، أو أيّ نوع من أنواع الكتابة الإبداعيّة الأخرى، ويصرّون على التوغّل في عالم ليس عالمهم لا من قريب ولا من بعيد، لنجد أنّ شخصاً لا يتقن صوغ جملة عربيّة صحيحة في مستواها اللسانيّ البسيط؛ يتبجّح بأنّه أصدر كذا ديوان شعريّ أو كذا رواية أو كذا كتاب أدبيّ، وقد دفع ثمناً من قوت أسرته كي ينشر كتبه وأهدر ورقاً وأحباراً لا تفعل شيئاً سوى تلويث البيئة، وحين يأتيه النصح الرشيد من عارف فإنّه يتململ ويعتقد أنّ الناصح ربّما يحاربه أو لا يريد له الخير، فلا يتّعظ بل يكابر ويؤمن بمن يجامله أو من لا علاقة له بالكتابة، فيكيل له المدائح المجانيّة حيث تغرقه أكثر من مياه الوهم.

الكتابة عملٌ صعبٌ لا يجيده إلّا قلّة ممّن تفانوا في إعداد ذواتهم المعرفيّة على أمثل ما يكون، وأنفقوا جهوداً جبّارة في إحاطة مواهبهم بأكبر قدر من الثقافة في مختلف مجالات المعرفة على نحو مستمرّ ومتطوّر، ويُعنون بما يكتبونه عناية فائقة تقترب من صورة العمل المقدّس الذي يرتفع في سلّم أولوياته داخل لوحة الحياة وصولاً إلى قمّتها، ثمّ يركنون إلى أنفسهم وذواتهم بعيداً عن الإعلام والإشهار والأضواء، لا يدّعون ولا يتبجّحون ولا يبالغون في تقديم أعمالهم بوصفها أيقونات فريدة لا نظير لها، ولا يمتدحون ذواتهم وأعمالهم بمناسبة وغير مناسبة على نحو مقرف لا يجلب لهم سخرية المتلقين، بل يجتهدون في كلّ حين ولا يرون منجزاتهم إلّا في إطار المحاولة الدؤوبة والصادقة التي تحترم ذاتها قبل أيّ شيء آخر.

ترى هل يمكن تقديم النصح لهم بأنّ الحياة أوسع من الكتابة، وفيها ما يمكن أن يبحثوا عنه ويجدوا ذواتهم فيه، وقد يحققون في ذلك من المنجزات المهمّة ما يستحيل عليهم إنجازه في الكتابة؛ لأنّهم ليسوا من أهلها، ابحثوا بصدق وإيمان وثقة وستجدون حتماً ما يجعلكم مقتنعين بأهميّة وجودكم في الحياة، ويكون لكم دور جميل ومفيد خارج دائرة الوهم الكتابيّ الكاذب، فما ينتظركم خارج قوس الكتابة أهم كثيراً من هذا الراء الذي تحسبونه إبداعاً.