د. جاسم حسين الخالدي
شهد الشعر العربي في القرن العشرين تحولات كبرى، حيث خرج من قوالبه التقليدية إلى فضاءات أكثر حرية، معبرًا عن الذات والواقع على حد سواء. وفي هذا السياق، برز بدر شاكر السيّاب بوصفه أحد أهم الشعراء العرب في العصر الحديث، إذ جمع في تجربته بين الحساسية الفردية والتحولات الاجتماعية الكبرى، ما جعله رائداً للشعر العربي الحديث، إلى جانب نازك والبياتي وبلند.
حين بدأ السيّاب كتابة الشعر، وجد نفسه منجذبًا إلى النزعة الرومانسية التي كانت تسود الأدب العربي آنذاك. شكّلت هذه المرحلة انعكاسًا لتجربة شاب يبحث عن ذاته وسط الطبيعة الحالمة والآمال العاطفية المجهضة.
كان شعره آنذاك يعبر عن أحلام فردية مرتبطة بالطبيعة كحاضنة مثالية للحب والمشاعر. لكن السيّاب لم يكن مجرد تابع لمدرسة رومانسية تقليدية، بل صاغ رؤيته الخاصة، معتمدًا على لغة متينة وصور شعرية غنية.
لم تكن الطبيعة بالنسبة له مجرد خلفية للقصيدة، بل كانت شخصية حيّة تعكس تناقضات الحياة. كذلك، شكلت المرأة في شعره الأول حلمًا بعيد المنال، ورمزاً للحرمان والخذلان، ما أضفى على قصائده مسحة من الحزن والأسى.
إن القارئ لشعر السياب، يدرك أن تلك البداية الرومانسية التي يطيب لبعض النقاد وصفها بأنها "ساذجة"، لكني أشخص فيها إحساساً لديه، بضرورة التغيير، عبر رغبة في تجديد القصيدة، على صعيد اللغة والصورة والإيقاع، ومن ثم تطور هذا الإحساس، ليحمل معوله، ويهشم وحدة البيت الشعري، ليشيع حساسية شعرية، لم يكن يعرفها العرب من قبل.
مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، بدأ السيّاب يتحول تدريجيًا من الرؤية الذاتية الخالصة إلى معالجة قضايا أوسع نطاقًا. وجد نفسه في مواجهة مجتمع يعاني من الأزمات السياسية والاقتصادية، ما دفعه للبحث عن أساليب جديدة للتعبير.
اتخذت قصائده طابعًا أكثر انفتاحًا على الشأن العام، مستفيدًا من الأسطورة والرمز بوصفهما وسيلتين لتجاوز حدود التعبير المباشر. كان هذا التحول نابعًا من تأثره بالثقافة الغربية والشعر الإنكليزي الحديث، وتحديداً ت.س. إليوت، ودي ستويل، ما ساعده على خلق توازن بين الخاص والعام في شعره. على الرغم من هذا التحول، لم يتخلَّ السيّاب تمامًا عن اللمسة الذاتية التي ميزت شعره في بداياته. بدلاً من الانشغال بالمجتمع فقط، نجح في المزج بين أزماته الشخصية وتحديات مجتمعه، ما جعل قصائده تمثل الإنسان العربي في صراعه مع الحياة.
في قصائد مثل "أنشودة المطر"، نجد أن السيّاب قدّم صورة شاملة عن المعاناة، حيث يصبح الفرد جزءًا من الجماعة، وتتداخل مشاعر الألم الشخصي مع آلام الوطن. هذا المزج بين الذاتي والجمعي أكسب شعره عمقًا وثراءً قلّ نظيره. لذلك تبقى هذه القصيدة، وقصائده مجموعته" أنشودة المطر" علامة فارقة في الشعرية العربية؛ لأنَّ السياب مارس فيها كل ضروب التجريب، إلى جانب أنَّها كتبت بإحساس واحد، وشعرية متصاعدة، وتقانات كان الشاعر العربي بعيداً عنها، مثل تعامله مع الأسطورة، بحيث صارت جزءاً من بناء القصيدة، وبذلك حرر القصيدة من سذاجة التعامل البدائي، حيث تظهر مرة تشبيهاً، أو وصفاً عابراً، خارج بنية النص.
مع اشتداد المرض عليه في سنواته الأخيرة، عاد السيّاب إلى حالة من التأمل الروحي، مستعينًا بالشعر بوصفه وسيلة للهرب من الألم الجسدي والنفسي. وأخذت قصائده طابعًا دينيًا متأملًا، حيث تبدو حواراً مع القدر والموت، ومحاولة لفهم المعاناة بوصفها جزءاً من تجربة إنسانية شاملة.
لم تكن هذه العودة إلى النزعة الرومانسية التقليدية ضعفًا في مسيرته الشعرية، بل كانت انعكاسًا لصراع وجودي عاشه حتى آخر أيامه، وفي هذا يستوي مع شعراء آخرين، كان الموت قريباً منهم.
ونحن نستذكر السياب في ذكراه، يمكن القول، إنه حالة فريدة في تاريخ الشعر العربي الحديث، حيث استطاع أن يجمع بين مراحل متعددة من الرؤية الذاتية إلى التحولات الاجتماعية. وأن تجربته الشعرية جسَّدت روح العصر الذي عاش فيه، وأظهرت أن الشعر قادر على أن يكون صوتًا للإنسان في مواجهته مع ذاته ومع العالم من حوله.