لعبة العنوان غواية القارئ وخيانة النص

ثقافة 2024/12/31
...

  أمجد نجم الزيدي


لا يمثل العنوان المصمم بعناية مجرد بطاقة تعريف للعمل الأدبي، بل يمتلك قوة تأثيرية هائلة تُسهم في توجيه القارئ، وإثارة اهتمامه، وحتى ترسيخ الكتاب في ذاكرته، فيمكن للعناوين الجيدة أن تصبح بوابات تجذب ذلك القارئ، مانحة إيّاه وعوداً ضمنية حول الأسلوب والمحتوى، أو ربما تُوقعه في شبكة من التوقعات والانطباعات التي قد تنتهي، في بعض الحالات، إلى خيانة للنص ذاته.

    تتجاوز أهمية العنوان مجرد الجاذبية الأولى؛ فهو يلعب دوراً محورياً في تسويق الكتاب، خاصة في ظل هذه الموجة الكبيرة من الطباعة والنشر، وتعدد الخيارات أمام القراء، إذ تستطيع العناوين المميزة إثارة الفضول وتحفيز النقاشات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجح عنوان مثل "ووترفون" للروائي نعيم آل مسافر، أو "إنجيل موكا" للشاعر علي فرحان، أو "نزيلات هاديس" للشاعرة إبتهال بليبل، أو "بتريكور" للشاعرة ذكريات عبد الله وغيرها من العناوين المشابهة، في أنْ يلفت انتباهي –على أقل تقدير- ويدعوني للبحث في دلالته ومدى ارتباطه بمحتوى المطبوع، وهذا الأمر يبدو نسبياً ويختلف من شخص لآخر، حسب الذائقة الشخصية والتوجهات الفكرية.

    تكمن قوة العنوان ربما في المخاطرة التي تكتنف هذه العملية، فالسعي وراء العناوين الجذابة قد يؤدي إلى تبسيط مفرط قد يقلل من قيمة العمل الأدبي، فقد تُختار كلمات مختزلة لا تعكس عمق المحتوى أو تفرده، ما يؤدي إلى انطباع غير دقيق عن النص، وعلى العكس من ذلك تكمن المخاطرة الكبرى أيضاً في خلق توقعات عالية من خلال العنوان، قد تؤدي إلى إحباط القارئ أو خيبته، إذا فشل النص في الوفاء بما يَعِدُ به العنوان. 

يشير جيرار جينيت في كتابه الذائع الصيت "عتبات النص إلى أن العنوان يُعدّ جزءاً من العتبات النصية، وهي تلك العناصر التي تسبق النص وتوجه فهمه، فبالنسبة له لا يُعد مجرد عنصر تسويقي، بل هو بداية لتوجيه القارئ نحو توقعات معينة، يرسمها في ذهنه، ومن خلاله يتعرض إلى نوع من الغواية، حيث يُعدّ بمثابة فخ فكري يستثير الفضول، إلا أن هذا الفضول –كما ألمحنا سابقاً- قد يتسبب في خيانة النص نفسه إذا لم يطابق النص الواقع الذي يوحي به العنوان.

وفي هذا السياق، تظهر غواية القارئ كعملية إبداعية تهدف إلى خلق حالة من الجذب للقارئ نحو النص، فقد ينجذب إلى العنوان لأنه يَعِدُه بشيء جديد أو مثير، ولكن ما يحدث في بعض الأحيان هو أن هذا الوعد لا يتطابق مع محتوى النص، وهنا تكمن المفارقة بين العنوان الذي يعِد بشيء لافت للنظر، وبين النص الذي قد لا يكون قادراً على الوفاء بهذا الوعد، هذه الخيانة قد تكون مقصودة كجزء من استراتيجية فنية تهدف إلى تشويش القارئ وإثارة تساؤلاته حول العمل الأدبي.

قد تكون الخيانة، في بعض الأحيان، جزءاً من عملية إبداعية تهدف إلى تفكيك المعاني وتقويض التوقعات، يصبح العنوان، في مثل هذه الحالات، أداة للتمويه، حيث يعكس صورة مشوهة عن النص ويثير تساؤلات حول موثوقية المعنى الذي يقدمه العمل، وقد يكون هذا التحدي بين العنوان والنص، بين الواقع والمخيلة، وسيلة لتحفيز القارئ على إعادة التفكير في النص بشكل أعمق، فخيانة العنوان قد تكون خطوة أولى في اكتشاف عمق النص، وتفكيك طبقات المعنى التي لا تظهر إلا بعد تجاوز التوقعات المبدئية.

وهناك جانب آخر بالغ الأهمية، لا يمكن إغفاله، في دراسة العناوين يكمن في علاقتها بالسياقات الثقافية والاجتماعية التي تُنتج فيها، إذ إنَّ العنوان، بوصفه عتبة نصية وفقاً لنظرية جيرار جينيت، لا ينفصل عن الإطار الثقافي الذي ينتمي إليه النص، بل يعكس بوعي أو دون وعي التوجهات الفكرية والقيم الاجتماعية التي يتفاعل معها الكاتب، ففي هذا السياق، يتحول العنوان إلى مرآة تعكس روح العصر وتحدياته، فهو ليس مجرد علامة تجارية لتسويق الكتاب فقط، بل أداة تواصل مع القارئ تعبر عن انتماء النص إلى منظومة فكرية محددة.

ويمكن النظر أيضاً إلى العناوين بوصفها مؤشرات للاتجاهات الأدبية السائدة؛ فهي تكشف عن نزعات الحداثة أو ما بعد الحداثة في الأدب من خلال اختيار الألفاظ، والتكثيف، وأحياناً اللعب باللغة أو الخروج عن المألوف، فالعناوين التي تستخدم كلمات غريبة أو مفاهيم فلسفية قد تعكس رغبة في استفزاز القارئ ودفعه إلى التفكير، بينما العناوين التي تركز على البساطة والوضوح قد تهدف إلى التقرب من الجمهور.

 يُستخدم العنوان أيضاً لإبراز الهويات الثقافية أو التوجهات الأيديولوجية، حيث نجد أن بعض العناوين تحمل إشارات إلى التراث المحلي، كالمجموعة القصصية "كُلُلوش" للقاصة رغد السهيل، بينما تسعى أخرى إلى تجاوز الحدود الثقافية باستخدام مفردات ذات طابع عالمي، كـ "بوغيز العجيب" للروائي ضياء جبيلي، هذه الاختيارات ليست اعتباطية، بل تعكس رؤية الكاتب لموقعه، وما إذا كان يسعى إلى توطيد هويته الثقافية أو الرغبة بالخروج من أفق هذه الهويّة نحو العالمية، أو اللا محلية، على أقل تقدير. 

لذا تتطلب لعبة العنوان مهارات نقدية متقدمة من الكاتب والقارئ، فهو ليس مجرد نافذة للاقتراب من النص، بل هو التحدي الأول الذي يُجبر القارئ على إعادة تقييم كل ما يعلمه عن النصوص والأدب بشكل عام، فالعلاقة بين العنوان والنص ليست علاقة ثابتة، بل هي علاقة متأرجحة ومركبة، يُصبح فيها العنوان نقطة البداية التي تحدد مسار القراءة، وتُثير الأسئلة الأكثر عمقًا حول الأدب ذاته.