د. علاء كريم
يهتم الخطاب المسرحي المعاصر بالصورة البصرية، التي يتبناها المخرج كـ "مرتكز" لنجاح العرض المسرحي، كون أن الصورة تنتج زمن العرض، وتبين معنى الأنساق الدلالية والإشارية فضلاً عن التشكلات الجمالية، وايضا تمنح العرض المتعة الفكرية والحسية التي يعمل المخرج على توظيفها برؤى وممكنات متجددة.
وتهتم الصورة البصرية في المسرح بالسرد والتحليل للوقائع والأحداث، كما تهتم بالفكرة وما يبنى عليها من رؤى ثقافية وفنية تجسد موضوعة الفكرة المقصودة مع وصف الشخوص والملامح والعناصر والخامات والمحاكاة السردية، لأجل تحقيق متعة جمالية تتماشى مع آليات التواصل الانساني. على الرغم من أن هذا يبدو غامضاً لتحديد موقع الجمال في المتعة أو في الانطباع أو الفكرة التي تسببه، يتحدث (هيوم) الذي ينتمي إلى المدرسة الوصفية المنطقية، عن إحساس الجمال، إذ يكون الإحساس، استجابة ممتعة أو مؤلمة للانطباعات أو الأفكار، على الرغم من أن الجمال مسألة ملذات شديدة الحساسية. المعيار الجمالي في الفن مرهون باللحظة الحاضرة، وعليه، من غير الممكن لأي خطاب في المسرح أن يوصل الفكرة للمتلقي دون اهتمام المخرج بصورة العرض المسرحي، والتي يمكن بوساطتها خلق لغة تستطيع أن تستحوذ على حواس المتلقي، وتؤثر عليه، ومن ثم اسهامها في إبراز القيم الجمالية للعناصر كوحدة متناغمة ومتكاملة.
(أُفق مفاهيَّمي) عرض مسرحي قدم على هامش مؤتمر النقد المسرحي العراقي، الذي أقامه بيت المسرح وبأشراف الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. (4 كانون الأول 2014 – باحة اتحاد الجواهري). تأليف وإخراج الفنان ثائر جبارة، أداء: زهير الجبوري، ثائر جبارة. عمل المخرج في هذا العرض على توظيف الفعل المسرحي داخل المكان المغاير، ليؤثر على خيال المتلقي، وايضا يبين أهمية الأمكنة المغايرة وتأثيرها على الجمهور، بجوانب متعددة منها معرفية وجمالية وايضا إنسانية، ليؤكد المخرج بأن عمليات التحول في الأداء التمثيلي، تعتمد على طبيعة الجوانب الاجتماعية والنفسية وايضا الثقافية، وما تعكسه العوامل البيئية المتغيرة، والمنتجة لتنوع الأداء الذي يظهر بصيغة جمالية فكرية. وايضا يتم التأكيد على أن الممثل هو العلامة الكبرى، لما يمتلكه من قدراته تعبيرية ترتبط بالرؤية الجمالية والفنية لشكل العـرض ومنهجـه.
اعتمد "جبارة" في بنية النص على الحوار الذي يعطي تصورا متكاملا لمدلولات خاصة، وأبعادا متعددة المعاني، والحوار حديث يتم بين شخصين أو أكثر، رغم أن آليات الحوار اليوم أصبحت معقدة كثيراً، نتيجة تنوع الرؤى والأغراض والغایات، ولأنه يستند إلى فلسفة تعتمد ركائز ومقومات الهدف منها المناظرة والجدل الذي ينزاح للتعبير عن الرأي، وايضا الأداء الذي من خلاله يتحقق التواصل والتأمل والتفكير وتبادل الحجج والآراء والمعاني، أو بعبارة أخرى هو التجربة التي نعيشها مع الجميع، فهو بناء لنص أساسه المحادثة، يتجسد بين متحدث ومخاطب، لمكان مشترك وفكرة متبادلة، يعيشها المرسل والمرسل إليه، ليتحقق بينهما الاتصال الحواري، ومن ثم تتولد عنه معطيات وأفكار تلامس جماليات الطابع الفكري المعاصر، لبنية النص، وايضا تلامس فعل الأداء، عبر صور ولوحات لأغلفة كتب أدبية واصدارات لشعراء وكتاب القصة والرواية، سعى لها المخرج في هذا العرض عبر محاكاة الجمهور من خلال معنى الصور أو اللوحات على الأغلفة، ليربط أفكار الكّتاب والشعراء بما نعيشه في الواقع، وما يمر علينا بوساطة الحروف التي تقدم الحكاية داخل إطار الصورة، لتكون مختلفة وبعيدة عن التقليدية، وتستخدم بأمكنة متعددة ومغايرة، وايضا مثيرة ومدهشة.
كان لأداء الممثل زهير الجبوري صفة خاصة، تمثلت في قدرته على الإحساس بالجمال وتذوقه، فضلاً عن أنه يمتلك وعيا لا يقتصر على الإحساس بالجمال وتذوقه عند حدود عالم المادة بل يتعداه إلى عالم الفن ومنه ما يلامس الأداء عند الممثل، لذا أرى بأن مسألة الجمال لا تخضع إلى معيار ثابت بسبب المتغيرات في البنية المجتمعية ومظاهر السلوك الإنساني والمدركات التي تندفع نحو الجميل الذي يتناسب مع معتقداته وتوجهاته الشخصية ومنها الجمالية الفنية. ما اعتمده الجبوري في هذا الدور هو فن الحكاية الذي يحاكي بوساطته الجمهور عبر صور الأغلفة، لبيان فكرة الغلاف وايضا بيان أوجه الشبه والاختلاف بين جوهر الاصدار ومظهره.
من ثم يقوم الممثل "ثائر جبارة" بتجسيد الحكاية عبر الأداء الحركي والصوتي فضلاً عن إيماءة الوجه، وذلك لما يمتلكه هذا الأداء من أثر وأهمية عند المتلقي، فضلاً عن امتلاكه دلالة تدرك أن محاسن الأداء تقود إلى الخلق الجمالي المرتبط بقوانين التشكيل وما ينتجه من إبداع يتجسد في كل زمان وايضاً في كل مكان، حاول المخرج في هذا الأداء الاقتراب من الحياة اليومية، وذلك عبر توظيف الصورة لأحداث الشخوص المتقاربة مع حياة الجمهور، أو محاكاة الصورة المراد إظهارها وإظهار مضمونها لكاتب أو شاعر موجود بين الجمهور، وهنا قد يتحقق فعل الأداء من خلال العامل النفسي المرتبط بالبيئة، والملامس للمدرك الحسي والانفعالي، المهم أن الفكرة مرتبطة بالحدث المتقارب مع المنجز الإبداعي، لنقرأ بوساطة مسرحية "أُفق مفاهيَّمي" ما يريده الكاتب وبطرق تنزاح لقراءة الأفكار عبر الأداء التمثيلي.
أعتقد أن هذه العروض تبقى في الذاكرة لأنها تُمارس الأداء في أمكنة مختلفة وبعيدة عن مسرح العلبة، الهدف من ذلك إغناء المسرح بالنتاج الجمالي المغاير، وتوظيف الفلسفة الأدائية بشكل يلامس التركيب الصوري، وهذا ما قدمه كادر العمل المسرحي، عبر عرض بعض الرسوم ولوحات وصور لواجهة كتب وإصدارات مختلفة، عمل المخرج على بيان الفكرة بنحو مختصر، ليعطي مساحة للمتلقي بالتأويل وجمع كل ما يرتبط بهذه الصور ومن ثم الوصول إلى الصورة النهائية المراد معرفتها من هذه المسرحية.