بوحٌ ذاتيٌّ في رقعة بسعة العالم

ثقافة 2024/12/31
...

 رمضان مهلهل سدخان 


بحكمة زاهد سبعينيّ، خبرَ الحياة وخاض غمارها في أشدّ أوقاتها تقلباً، يرتحل بنا الشاعر البصري كاظم اللايذ، هكذا بهدوء العارفين، عبر بوح شفيف بين مكانيات وزمانيات أثيرة على نفسه، وتجليات أشبه ما تكون بارتجاعات فنية، بين كائنات غامضة غريبة، مقرونة بعبق الماضي السحيق، والتقاطات كثيرة تستشرف الآتي، عرّجَ صوبها الشاعر وغاص بين تلافيفها قطبة قطبة. هذا البوح شَفَعَه بأسلوب شعريّ يأسر تلابيب القارئ الذي جعله يفضّل أن ينهي الديوان بجلسة واحدة، أسلوب آسِر يأخذ القارئ طوعاً ويجعله يتأمل بفيضِ حِكَمٍ ومواقف وتأملات وشخوص يجري استعادتها في قصائد بدت وكأنها سرد جميل بلغة شعرية متأمِّلة تنطوي على بوح جعلَ مفاتحه بين ثنايا أبيات قصائده.  

كانت البداية مع العراق، فقدّم هوية تعريفية له ممزوجة بهوية الشاعر نفسه عبر صورة ثنائية رسمها عن الوطن وعن نفسه: "من عبّاد النخل أنا/ أمضيتُ هنا سبعين، وسأمضي سبعين أخرى/  في روحي صومعة يسكنها قديس/ مفجوع القلب/ يناديه الناس: عراق". هذه هي بدايات بوحه الذاتي، الذي كان أناً بشكل مباشر وآناً أخرى بشكل غير مباشر عبر انثيالات وأفكار وغوص في ثيمات شكّلت الهاجس المهيمن في روحه التي نيّفت على السبعين.  

فها هو يحدّثنا عن أشياء لم تعد موجودة، ألفها الشاعر قبل سنين خلت "كان هنا نهرٌ/ وزوارقُ تمرق من تحت الجسر/ وإوزات تسبح في الماء/ وهناك من حيث يجيء المدُّ/ سرب سفائن". ويجوب بنا بأماكن لها وقع في روحه يتناولها بحسرة، أماكن عراقية، وعربية، وعالمية، قديمة أو حديثة: باب السرّاجي، السبيليات، أم البروم (المقبرة حسب بعض الروايات وحسب "قصّخون" بصرياثا الكبير محمد خضير)، الموصل، دمشق، الصين، طنجة، غرناطة، مرسيليا، إسطنبول، وغيرها. ذلك لأنه ساح كثيراً بأرض الله، ولو من باب الحلم، فمكثَ في طنجة، وتلمّس طريقه في غرناطة، وفي مرسيليا أمضى الليل، ورأى منائر إسطنبول، وتفرّج على المومياء الفرعونية في بلاد النيل، وعبَرَ من القوقاز والهند ليحط رحاله في سيلان، حتى إذا بلغ بخارى وسمرقند صار قريباً من سور الصين. تلك الأماكن شكّلت في لا وعيه مهيمنات جعل بينها وبين الواقع وشائج شتى. 

فضلاً عن ذلك، جاء بوح الشاعر أيضاً عبر تجليات تكشّفت عبر ثيمات الهروب من الضجر، ووصف حال مَن يبلغ السبعين، وحديثه عن العمى المادي والعمى المعنوي، وحال المستشفى وانتظار الموت، ورجوعه إلى رحيق الماضي السحيق، وتغيّر حال البصرة، والخوف من التاريخ، وإظهار بعض التناصات الحياتية وسرد الحكايا المؤثرة في هذا الخصوص، وصولاً إلى حيرة الشاعر ولا أدريته التي تجلّت في القصيدة السؤال "إلى أين أنا ذاهب؟ وإلى أين هم ذاهبون؟"، هل هو ذاهب "مع الآدميينَ المحتشدين" على بوابة التقاعد، أم "مع الحشود المتلاطمة" في دائرة المرور، أم "مع النفوس اللائبة المختنقة" في دائرة العقار، أم "مع المتدافعين في الكراجات/ والمطارات ومحطات القطار"، أم مع الجماهير في "الأسواق والمولات والساحات"، أم "مع الوجوه الضاحكة في قاعات الأعراس/ والواجمة في مجالس العزاء"، أم "مع هؤلاء الناس جميعهم؟" فيجيب بكلام مغلّظ "حرامٌ عليّ ... إن كنتُ أعرف". 

لا أدرية تتكشّف بأسطع صورها في حكمته - قصيدته - الأخيرة التي أسماها "سفينة الزمن"، التي يختتمها بالقول بأن تلك السفينة: "لا أحد من الركاب هنا/ يأبه/ أن كان اليومُ/ هو الخميس أو الأحد أو الجمعة/ إذا كان الفصل هو الشتاء أم الصيف/ لا أحد هنا يعرف/ إذا كان هو في الألفية الأولى/ أم في الثانية؟/ أو حتى ما قبل الألفيات، وقبل التاريخ؟". خاصة أن سفينة الزمن تلك تجري سادرة "لا تلوي على شيء/ يقودها ربّانُها الأعمى/ وبحّارتُها المعتوهون".  

ويبقى أشد البوح إيلاماً هو وصف حال مَن بلغَ السبعين، كون "الساعات ثقيلات تمضي/ لابسة أحذية من فولاذ". ولا مأوى سوى المقهى، فالبيت يلفظه والشارع كذلك، وكأنه مخلوق من دنيا أخرى. ولكن حتى في هذا الملتجأ  -المقهى - تكون الغربة سيدة الموقف لأن الأصحاب "وقعوا في قبضة عزرائيل" فتتفصّد روحه عرقاً ويبدو أمامه العالم مغلقاً، والبيوت مجرد حيطان صامتة بلا أبواب! ويقسم لحارس الزمن "إنني ما زلتُ طفلاً/ 

وإنْ تجاوزتُ السبعين بكثير". ويستمر البوح ويستعرض للقارئ صوره التذكارية: صورته وهو تلميذ في الصف الأول الابتدائي التي "لم تكن جميلة"، وصورته في دفتر الخدمة العسكرية التي هي الأخرى "لم تكن جميلة"، وصورته في الروب الجامعي التي كانت "باهتة أيضاً"، وصورته ببدلة الزفاف التي "كانت بعيدة عن السعادة/ ببضعة كيلومترات". تلك الصور التي يعترف بوضوح "هي على هذا النحو البائس الحزين/ لا تثير من اللذائذ ما تثيره الذكريات/ ولا تطلق ذلك العنان الآسر المخادع/ ولا تترك على وجه متصفحها حتى ربع 

ابتسامة".  

وعندما يفتح خزانة ذكرياته، يحدّثنا عن أصدقائه القدامى، عن "صالح" الذي عرفه أيام الحرب، والذي لا تتعدى قامته الشبرين بعد المتر، لكن صالحاً ذاك كان يمطره بوابل من الأسئلة يستفسر عن أصدقائهما المشترَكين. كذلك يحدّثنا الشاعر عن الماضي السحيق وعن العمة زكية وما تمتلكه من إمكانيات في "الفَلَك" وعن التقاطاته بعد انتهاء الحروب وكيف أن الناس قد أعادوا كلّ شيء إلى سابق عهده إلاّ "الوَلَد/ الذي مكث هناك/ على تراب الأرض الحرام/ تحوم حوله الصقور"، وعن وجدانياته، وعن مأساة شط العرب، وغيرها من آيات البوح الشفيف، التي كان أمضّها أن رأسه "يزن على الوسادة سبعين رطلاً/ وجهاز الذاكرة/ الذي علّقه الطبيب بالمسامير/ يشير إلى الرقم: صفر".

يبقى ديوان "أم البروم.. رقعة بسعة العالم"، الصادر عن دار الرافدين 2024، مساحة على امتداد سنين طوال من التجارب والصراعات والذكريات بشتى أنواعها، أفاض فيها الشاعر عن مكنوناته عبر 31 قصيدة كُتِبت بلغة آسرة 

أخاذة.