اللغة وطبيعة التفكير

ثقافة 2025/01/05
...

  كاظم لفتة جبر 

اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي جوهر وجود الإنسان، حيث تعكس الوعي الفردي والجماعي. وبحسب أرسطو، الإنسان "حيوان ناطق"، مما يعني أن اللغة مرتبطة بوعي الذات ووعي الموضوعات، وهي السبيل للتعبير عن المشاعر والأفكار. الصمت، في هذا السياق، يمثل أنين اللغة، لأنه يظل خاضعا لقدرة اللغة الرمزية على التعبير.

فكلما عرفنا لغةً جديدة زاد وعينا بالأشياء، وتباين استعمالها، وللغة أقسام من حيث الاستخدام، الأولى: اللغة الوظيفية التي نستخدمها من خلال المعرفة والعلوم وتوفير حاجاتنا اليومية، واللغة الرمزية التي يدخل فيها الفن والجمال والطقوس الدينية، واللغة الشعبية التي تكثر في الأسواق. واللغة الإعلامية التي تكون مهمتها توجيهية إخبارية. 

فمباني اللغة متفاوتة، ودلالتها متمايزة، ومعانيها متقابلة لعملها. ولكل لغة خصوصيتها وثراؤها الذي تستقيه من حضارتها وتراثها، ودينها، فالشعب الذي لا يملك لغة، هو الشعب الذي لا يملك حضارة ولا هوية ثقافية تعبر عن انتماء الفرد لهذا الوطن. فاللغة ليست اصواتاً، بل هوية، وليست وسيلة للتواصل فقط، بل هي أداة لفهم الذات، ومعرفة غايات الآخر، وبناء العلاقات الإنسانية. 

فلا يمكن فصل اللغة عن التفكير، لأن الأفكار تتشكل داخل الذهن عبر الرموز اللغوية، وهذا ما أكده جون لوك بقوله: اللغة علامات حسيَّة تشير إلى الأفكار والصور الذهنيَّة. فاللغة كأسلوب معيارٌ للوعي، فكل شيء في هذا الكون اللغة تتحكّم به ويتحدّد بها. 

 فكلما تطورت اللغة اتّسع الخيال وزادت المعارف، والعرب مثال حي على ذلك، حيث أبدعوا  في الشعر والفكر، وأسهمت لغتهم في اغتناء الحكمة والمعارف اليونانية عبر الترجمة، فالصانع والمحرك والجوهر أصبح له تسع وتسعون أسماً تدل عليه وتعزز وجوده مع الفارق بين الله والإنسان. 

وعلى الرغم من مميزات لغتنا العربيّة إلّا أنَّ محمد عابد الجابري في (تكوين العقل العربي) يرى أنّ "العقل العربي يعاني من أزمة لغوية وأنه يعيش في عالمين، عالم اللغة الشعبية الدارجة التي تدل على الواقع ومليئة بالكلمات الدخيلة والمستعربة، وعالم اللغة الفصحى التي تدل على الفكر والمعرفة". فهذا التشتت اللغوي جعل الفكر والثقافة العربية في انحسار وتراجع وسبب في ضياع الهوية الثقافية العربية. وهذا ما اكد عليه المستشرق وعالم اللغة ماكس مولر، بأن "اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة، فإذا فسد وجه أحدهما فسدت العملة".

فإذا كانت طبيعة الفكر تتحدد من خلال اللغة، فإنّ الذي يحدد طبيعة اللغة هي البيئة والظروف النفسية والاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية، فلا يمكن فهم المعنى من دون الربط بين الدال والمدلول، واستعارة المجاز، وبناء الجملة والاعراب عنها. فلا يمكن فصل اللغة عن القيم كالحق والخير والجمال، فمن خلال اللغة يمكن فهم الآخر ومعرفة طبيعة موقفه اتجاهنا أو اتجاه قضية ما، فلا يمكن فهم الخير أو الشر، أو الكذب و الصدق، أو المحبة والكره من دون اللغة. 

فاللغة أسلوب الفكر، وأسلوب الفكر متفاوت ونسبي فقد يخدم الأيديولوجيات والمطامع الذاتية في البناء أو الهدم، أو في الحكم والاستعباد، أو في التوافق والاختلاف، أو في السيطرة والاستغلال، أو في الخداع والعنف، في هذا السياق بحسب ياسبرز، اللغة تقيّد الفكر وتوجهه ضمن أطر ثقافية وتاريخية محددة. أما برغسون فيُعبّر عن هذا القيد بقوله: "الألفاظ قبور المعاني"، مشيرًا إلى أن اللغة قد تُقصّر في التعبير عن الأفكار. 

وهناك من يرى أنَّ اللغة نتاج البيئة الاجتماعية والأسرة والظروف المحيطة بنا مثل سوسير، ويعبر هيغل في كتابه علم المنطق "إذ يرى أن الفكر، الذي يتحقق بشكل تام من خلال اللغة، هو الذي يمنح الأشياء وجودها الحقيقي". 

ففي عصر العالم الافتراضي، شهدت اللغة تدهورًا بفعل الإيموجيات الرمزية، ما أدى إلى تضييق معاني الكلمات وتقليص قدرتها على التعبير عن الأفكار. وهذا يؤثر سلبًا على تطور الفكر وثراء المعرفة.

اللغة هي مفتاح الفهم والتفكير، وهي مرآة تعكس هويتنا وثقافتنا. الاهتمام بها يعزز الفكر، ويمنح الإنسان القدرة على التفاعل مع العالم بوعي ومعرفة.