فلسفة الرّسم الآسيوي

ثقافة 2025/01/07
...

 حسن جوان


تتوزع المدارس الفنية على جغرافيات متنوعة حول العالم، متأثرة بفواعل وتأثيرات تاريخية وبيئية متصلة بتلك الفواعل. ومن الملاحظ أن الحركات الفنية في عموم العالم تتزامن مع الحركات الثقافية والنهضات المعرفية والعلمية. بل لا تنفك عن كونها جزءا لا يتجزأ من مجاوراتها من الثورات الأدبية والعلمية. وغالباً إلى ما يشار حداثياً إلى المدارس الاوروبية وتأثيراتها المباشرة على الشرق الأوسط وحركاتها التشكيليّة الناشئة كظلال واضحة للأفكار والفنون والتقانات الأوروبية، ولا ينظر تلقاء الشرق الأقصى الأكثر عراقة وفرادة في ريادة الفلسفات والمكتشفات الأولى في صناعة الفن وأدوات من حبر وورق وألوان طبيعية ذات خصائص ترتبط بالمفاهيم الروحية للفلسفات الشرقية.


نبذة وتعريف

تتجذر المحاولات المبكرة للرسم بالحبر المغسول إلى مطلع القرن الثامن الميلادي في شرق آسيا وبشكل أكثر تحديداً في الصين القديمة. وعلى اعقاب اكتشاف الورق في الأخيرة، برزت الكثير من الاستخدامات وتنوعت خامات الورق المستخدم في الكتابة (الخط) وفي الرسم. وكما أن الورق الصيني اعتمد خامات طبيعية في صناعته، فإن الحبر المستخدم يستخلص من مزيج من مخلفات دخان الفحم (السخام) مع أنواع خاصة من الغراء الحيواني المأخوذ من جلود الحيوانات ذات الطابع اللزج، حيث يعمل على تماسك السخام مكوناً مادة طويلة الثبات على سطح الورق وذات قوام صمغي أسود وكثيف. وهنا يأتي دور الماء الذي يمنح هذه التقنية خصوصيتها النغمية من حيث التحكم في درجات الاسود الغامق لصناعة التأثيرات الرمادية والهارموني الذي يعكس الفكرة الجوهرية لفن الرسم بالحبر الصيني.


فلسفة وتدريب

عندما يشار إلى هذا الاسلوب في الرسم بالحبر بكلمة "مغسول" بدلا عن "مخفف" فإن هذا متعلق بجوهر تقنية الرسم نفسها. فالمخفف هنا غير المغسول عبر تحكمات الرسام بحركة الفرشاة ودرجة الضغط على الورقة بذات الحبر لخلق تأثيرات متنوعة من خلال تدريب طويل وشاق. وكما الخزاف الصيني، يحتاج الرسام الصيني هو الآخر إلى التدريب على عدم الخطأ مطلقاً وهو يلمس سطح لوحته. ولا يتأتى له ذلك سوى بعد تأمل واستجماع خبرته التي تقتضي حبس انفاسه وهو يشرع بأي اضافة على ثيمته المرسومة بعناية فائقة. وتقوم فكرة الرسم بالحبر المغسول على فلسفة عميقة مستنبطة من نسيج اجتماعي وفكري مرتبط بالصين والشرق الاقصى بشكل عام ومنها انطلق لاحقاً إلى مدارس فنية أخرى عبر فكرة الاختزال واستبطان روح الشكل لا الشكل نفسه. 

وهكذا فإن أبرز عنصرين تتكئ عليها أساليب الرسم بالحبر المغسول هما فكرة الاختزال الذي يتضمن بدورة التأمل والتحكم المفرط في حركة الفرشاة وطريقة فرش الحبر بتدرجاته للتعبير عن الثيمة وفورماتها، والعنصر الثاني يتمثل في فلسفة رسم روح الشكل كما تشعر به لا كما هو ضمن حدوده الفيزياوية بالضرورة. وهنا تتسع المساحة الروحية للكائن لتتغلب على وجوده المادي كثيمة واقعية محكومة بثقلها المحسوس عبر المدركات الانسانيّة المعتادة بصرياً. جدير بالذكر أن الرسم بالحبر لا يحتم استخدام الحبر الاسود المستخلص من المواد والطريقة المذكور آنفاً بل قد يستخدم الرسام احباراً ملونة أخرى اذا اختار لنفسه بعداً تعبيرياً مغايراً، يتجاوز به احادية اللون الواحد التقليدي لهذا الاسلوب العريق. 


تأثيره في الحداثة الأوروبية

ينتبه مؤرخو الفن المعاصر والحديث إلى عمق التأثير الآسيوي على مدارس الفن الاوروبي والغربي بشكل عام، ولا ننسى أن الفنان المعروف فنسنت فان كوخ انطلق تحت تأثيرات مباشرة من الفن الياباني والصيني وحدثت طفرته وخصوصيته اللّونية تحت سطوة هذا التأثير.

أما عموم التأثير فقد وجد مساحة تقنية وفكرية عند غالب الفنانين الأوروبيين من خلال مفهوم الاختزال والحداثة على وجه الخصوص والإفادة من المنظورات الخطية والإخراج العام للعمل الفني المتأثر بمفاهيم احتلال فضاء واسع "فضاء روحي" قادر على منح العمل الفني "نفَساً" واعتبار الفضاء مادة بحد ذاته لا فراغاً مهملاً. ومن المناسب الإشارة إلى أن المدرسة الاسيوية التي اكتسبت صفاتها الخاصة من خلال المبتكرات الصينية العريقة لا تزال تحتفظ بالكثير من الخصائص الموروثة على الاسلاف وعلى التعامل بروح قريبة من القداسة مع الأسلوب والخامات مع الحرص على الاضافة والتطوير المستمر والمناسب مع روح الحداثة والتغيير 

المعاصر.