{التلصص} بوصفه أداة سرديَّة

ثقافة 2025/01/07
...

 د.ثائر العذاري

 تصوير: نهاد العزاوي


 لا شك أن كلمة "التلصص" حين ترد في مقال عن الرواية فإنها ستذكرنا بالروائي صنع الله إبراهيم وروايته المهمة (التلصص)، وذلك الراوي الصبي الذي يستكشف العالم عبر مراقبته التي لا يشعر بها أحد. على أن التلصص يختلف عن المراقبة، فالمراقبة معلنة ظاهرة يشعر بها المراقب والمراقَب اما التلصص، فهو مراقبة الآخرين من غير أن 

يعلموا.

ومذ قرأت رواية (كلارا والشمس) للكاتب البريطاني كازوو إيشيغورو قبل أسابيع – ولم أستطع أن أجد لها ترجمة عربية -  شغلني هذا الموضوع الذي أرى أنه واحدة من الأدوات السردية التي لم يُلتفت إليها ولم تدرس سابقا. ولعل هذه الرواية تمثل أجلى نموذج للفكرة التي أحاول بناءها في هذا المقال.

في الأدب السردي، يمكن أن نرى "التلصص" أداةً فعّالةً في بناء الشخصيات، فهو يُمكّن الكتّاب من استكشاف أعماق النفس البشرية وتفاعلاتها مع العالم المحيط. التلصص هو مراقبة الآخرين خِلسةً، مما يتيح للراوي المتلصص فهمًا أعمق للبيئة الاجتماعية والنفسية التي تعيش الشخصيات فيها. ويُسهم هذا الفعل في تطوير الشخصيات وإبراز تعقيداتها الداخلية.

في رواية "كلارا والشمس" تُجسّد الشخصية الرئيسة، كلارا، مفهوم التلصص بوصفه وسيلةً لفهم العالم البشري. كلارا، الصديقة الاصطناعية (AF)، صُمِّمت لمراقبة سلوكيات البشر وتعلّمها، وتستعمل التلصص وسيلة لفهم مشاعرهم وأفكارهم. عبر مراقبتها الدقيقة للمارة والأحداث اليومية من فاترينة المتجر، ونسمي ما تفعله كلارا تلصصا لا مراقبة لأن من تراقبهم لا يستطيعون تصور مراقبة روبوت لهم بهدف دراسة سلوكهم وفهمه، فهي تلاحظ تفاصيل حياتهم، مثل أنواع الأحذية وتعبيرات الوجوه، مما يساعدها على تكوين فهم أعمق للعالم الخارجي. وتقوم بتحليل سلوكيات الأطفال والبالغين، محاولةً فهم المشاعر التي تعبر عنها تصرفاتهم، وتستمع بعناية إلى نبرات الصوت وتعبيرات الوجه ولغة الجسد عند التفاعل مع الآخرين، مما يمكّنها من فهم السياقات الاجتماعية والعاطفية المحيطة بها. هذا التلصص المستمر يُمكّن كلارا من بناء شخصيتها وتطوير فهمها للعالم البشري، مما يعكس طبيعة التعلم والتفاعل الاجتماعي. لكنها من جانب آخر تبني الشخصيات الأخرى وتطورها من غير أن يشعر القارئ غير المهتم بتقنيات السرد بدورها 

هذا. 

ظهرت هذه الرواية في قوائم مختلفة لأهم الكتب، مثل قائمة أفضل عشرة كتب لعام 2021 للواشنطن بوست، فضلا عن ترشحها لجوائز مهمة مثل البوكر، ولهذا نشرت عشرات الأوراق الأكاديمية عنها في أبرز المجلات المحكمة في العالم، وكانت كل الأوراق التي استطعنا الاطلاع عليها تركز على (التلصص) الذي كانت تمارسه كلارا، الذي سموه أحيانا المراقبة او الرؤية او التج سس، ذلك لأن إيشيغورو يبتكر في هذه الرواية زاوية نظر قد تكون هذه هي المرة الولى التي يجربها روائي، حين تحاول الألة الذكية رصد العالم البشري وتحاول فهمه، والمغامرة التي ادخل الروائي نفسه فيها تتمثل في أنه جعل الروبوت (كلارا) هي الراوي. تقدم "كلارا" رؤيتها للعالم عبر ثلاث درجات من (التلصص):

أولا: التلصص من خلال العدسة البانورامية، فكانت تجاربها الأولى لفهم العالم المحيط بها، بعد تشغيلها، مراقبة الشارع من مكانها في فاترينة المتجر الذي عرضها للبيع، كان الشيء الول الذي تعلمته هو أن الشمس هي التي تهبها الحياة (لأنها تعمل بالطاقة الشمسية)، وأن البشر يرتدون ملابس مختلفة، لكل منها وظيفة ثانيا: التلصص عبر العدسة متوسطة التقريب، ففي الثلث الأول من الرواية تراقب كلارا مجموعات من البشر لفهم تفاعلهم مع بعضهم وتفاعلهم معها، واللافت هنا مقطع من ست صفحات (16 – 22)، تظهر فيها كلارا وهي تلاعب الأطفال وتتفاعل معهم، بينما كان ذكاؤها الاصطناعي يقوم بتحليل سلوكهم وردود أفعالهم لفهمها والتعلم منها. ويدس إيشيغورو هنا رسالة مشفرة عبر تلصص كلارا مفادها بأن الأطفال هم الكائنات الأصدق تمثيلا للسلوك البشري المفهوم والقابل للتحليل.

ثالثا: التلصص عبر العدسة المقربة: فبعد أن تستوعب كلارا المحيط وتفهم مصدر الطاقة الذي يهبها الحياة، والقواعد العامة للسلوك البشري، تنتقل إلى هذه المرحلة، التي تتلصص فيها على أشخاص بعينهم لفهم ما يميزهم عن الآخرين، فكلما كانت تشهد مواقف مختلفة، كانت تتعلم منها. فمثلا، عندما رأت شخصين يتعانقان، أدركت أن هناك مشاعر معقدة مرتبطة بالحب والفراق، مما جعلها تفكر في كيفية تأثير هذه المشاعر على البشر. وقد تكون هذه الدرجة أوضح درجات التلصص، فهي لم تكن محض مراقبة سلبية، بل كانت متلصصة تفكر في ما تراه وتحاول تفسيره. كانت تتساءل عن الأسباب وراء تصرفات فلان، مما يدل على قدرتها على التفكير النقدي والتأمل في العالم من حولها. وقد يبدو هذا أكثر وضوحا حين تتلصص على شحاذ معه كلب تراهما ينامان في مخل العمارة المقابلة عند حلول المساء، فتظنهما ميتين وتفكر طوال الليل في  طرق للمساعدة في نقلهما إلى مكان أفضل، وعندما يحل الفجر وتشرق الشمس يستيقظان ما يجعلها تقدس الشمس، لأنها وهبتهما الحياة كما تهبها لها. "كلارا والشمس" تجربة فريدة تستحق الدراسة والتعمق لما فيها من تجربة تقنيات سردية 

جديدة.