إيدا هامرشوي.. إمرأة بلا وجه

ثقافة 2025/01/08
...

لوسي ديفيز

ترجمة: بهاء سلمان

كانت لوحات الفنان الدنماركي “فيلهلم هامرشوي” تحتوي على شخصية متكررة: امرأة غامضة ظهرها مائل. هنا، من خلال الرسائل والصور، يتم الكشف عن قصتها المؤثرة والمشوبة بالحزن.

في لوحته “داخل ستراندغاد، ضوء الشمس على الأرض”، التي رسمها عام 1901، يصوّر الفنان نافذة طويلة وباباً أبيض غير متوازن وإمرأة على طاولة. لا يمكننا أن نرى وجهها تماماً، أو ما تفعله، لكنها ليست بطلة اللوحة. هذا الدور مخصص للضوء: الشمس الإسكندنافية الفضِّية التي تتدفّق عبر الغرفة الصامتة لتلقي بنموذج معيّن على الأرض.

من المدهش أن نرى كيف أخذ هامرشوي (1864-1916) هذه الأشياء العادية وحولها إلى فنٍّ حديث. تنبئ لوحاته، التي تنبض بأجواء من عالم آخر لا تنسى، بأعمال الأميركيين إدوارد هوبر وأندرو وايت خلال منتصف القرن العشرين، وحركة (التقليلية= الحدنوية ’من الحدِّ الأدنى‘) الفنية (Minimalism) في ستينيات القرن العشرين.

تظهر العديد من لوحاته منزله في الحي التجاري القديم وسط كوبنهاغن. كان هامرشوي مفتوناً بجدرانه الرمادية الزرقاء، والألواح الخشبية القديمة، والطريقة التي تفتح بها أبوابه على غرفة تلو الأخرى مملوءة بالضوء. لقد نجح بالتقاط هذه الأشياء ببراعة لدرجة أنك تتخيل أنك تستطيع أن تشمَّ رائحة الطلاء الذي جعل طاولته تلمع، أو تسمع أنفاس المرأة الهادئة.


الموضوع الرئيس

كان اسمها “إيدا إلستيد”، وهي زوجة هامرشوي، إذ تزوّجا سنة 1891، عندما كان عمره 27 عاماً، وكانت هي بسنِّ الثانية والعشرين. وتظهر عبر نحو مئة من لوحاته، جالسة أو واقفة مرتدية فستانها الأسود، أما أفكارها ففي مكان آخر. وغالباً ما كانت تدير ظهرها، الأمر الذي يبدِّد أي أمل بوجود صلة نفسية، أو دليل على حالتها العاطفية. ومع ذلك، فإن الرغبة في التكهُّن غريزية وساحقة.

يقول الدكتور “فيليكس كرامر”، الخبير الرائد بأعمال الفنان، وأمين متحف فيلهلم هامرشوي: “إن المشاهد الآسرة في لوحات إيدا تعطي انطباعاً أولياً بأننا ندخل إلى عالمها الحميمي. ولكن عند الفحص الدقيق، لا نجد سوى القليل من التفاصيل الشخصية، ولهذا السبب تظل اللوحات غير قابلة للمعرفة بشكل قوي ومفتوحة لقراءات متعددة.”

يضمُّ المعرض، الذي يرافقه كتاب جديد، 18 عملاً من مجموعات خاصة، وهو أول عرض فردي على الإطلاق للوحات الفنان في سويسرا. قد يبدو هذا مفاجئاً نظراً لأن هامرشوي أصبح الآن الفنان الدنماركي الأكثر طلباً على الإطلاق، حيث بيعت لوحته التي رسمها عام 1907 بعنوان غرفة الموسيقى، ستراندغاد 30 مقابل ما يزيد عن تسعة ملايين دولار خلال العام الماضي. 

على امتداد معظم سنوات القرن العشرين، ظلت أعمال هامرشوي طيَّ النسيان، ولم يتم إحياء السمعة المتواضعة التي اكتسبها في حياته، ومن بين المعجبين به الشاعر “راينر ماريا ريلكه” ومقاول الحفلات الروسي “سيرغي دياغيليف”، وصولاً إلى تسعينيات القرن العشرين. وكان المعرض الاستعادي لعام 2008 في الأكاديمية الملكية بلندن هو الأول له الذي تشهده بريطانيا. وحتى اليوم لا يوجد سوى ثلاثة من أعماله في مجموعات المملكة المتحدة.

ويرجع الكثير إلى حقيقة أن اللوحات لا تندرج بسهولة ضمن أيٍّ من “الحركات الفنية” والابتكارات التي تشكل السرد السائد للحداثة. ورغم أنه ولد في نفس العام الذي ولد فيه الرسام الفرنسي “تولوز لوتريك”، وبعد عام واحد من ميلاد إدوارد مونش، لكن هامرشوي كان دائم النقش لطابعه الهادئ الخاص به.


انعزال عن الآخرين

وعلى الرغم من أنه سافر مع زوجته إلى جميع المراكز الفنية عبر أوروبا، مثل ميونيخ وبرلين وباريس ولندن وروما، لكنهما تجنبا مجتمع المقاهي والحفلات التي تزيّن ذلك العالم المتلألئ. في كوبنهاغن، عاشا كأنهما منعزلان، وحوّلا شقتهما القديمة إلى نوع من المختبر لدراسة حوار الضوء مع الهندسة المعمارية على النحو الذي يرضي قلبه، حيث رسم الجزء الداخلي من شقته 66 مرة خلال عشر سنوات.

ربما جاء موضوع المرأة الوحيدة في الداخل من فيرمير، الذي أعيد اكتشاف لوحاته أواخر القرن التاسع عشر وكانت رائجة جداً، أو من “روكنفيغر” (الشكل المنظر من الخلف) في الرسم الرومانسي الألماني، حيث تبدو سيدة عند النافذة داخل عمل “كاسبار ديفيد فريدريك” (1822) مثالاً رائعاً. تُظهِر اللوحة زوجته “كارولين” وهي تحدّق في القوارب على (نهر الإلب)، على الرغم من أن السماء الربيعية بالخارج، والأمل والشوق الروحي الذي تمثله، هو ما يريد فريدريك منا التركيز عليه، وتجذب العين أكثر من أي شيء آخر.

رسم فنانون آخرون في هذا العصر نساء وحيدات بجانب النوافذ لكنهم وجهوا نظر المشاهد إلى الداخل، لخلق نوع من الرعي المنزلي. في هذه الغرف الهادئة، تمتلئ النوافذ بالضوء، لكن المنظر الخارجي خافت. كانت هذه الأنواع من اللوحات من تخصص صديق هامرشوي، “كارل هولسو” .

كان هامرشوي قد رأى تداعيات هذا النقاش عندما زار باريس سنة 1891، مباشرة بعد زواجه. كان الزوجان قد خطبا قبل ذلك بعام، في مسقط رأس إيدا في ستوبيكوبينغ. كانت ابنة تاجر ثري وشقيقة زميل هامرشوي السابق لدى الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون الجميلة، “بيتر إلستيد” .

ويعتقد أن هامرشوي طلب من إيدا الزواج منه على الأقل لمساعدتها على الهروب من منزل العائلة. “لقد أصيبت والدة إيدا بالجنون مرة أخرى. بصراحة كما يمكن أن تكون”، هكذا كتب هامرشوي إلى والدته. “وهناك وقعت أفظع المشاهد التي لن أحاول حتى وصفها” .

من المؤكد أن السرعة التي تمت بها الخطوبة فاجأت شقيق هامرشوي الأصغر، سفيند، الذي كتب: “عزيزي فيلهلم! تهانينا، أتطلع إلى التعرف على خطيبتك. لقد كانت مفاجأة عظيمة، على أي حال بالنسبة لي، لم أكن لأتصور قط أنك قد تفكر في الخطوبة” .


مرض نفسي

يقول المؤلف “جيسبر وونغ سونغ”، الذي يتخيّل حياة خيالية لإيدا في روايته “المرأة التي شوهدت من الخلف”، والتي تتجاوز لوحات هامرشوي، لهيئة الإذاعة البريطانية إنه اكتشف ملفات في المكتبة الملكية الدنماركية تفيد بأن والدة إيدا “تم تشخيصها بأنها مصابة بـ”الهستيريا”. وأشار أطباء المستشفى العقلي إلى أنها “ذكية”، لكنها “سيئة الطباع”، وأنها خرجت من المستشفى عدة مرات بالضدِّ من توصية المستشفى. وفي الصفحة الأخيرة لملفها، وردت عبارة: “لقد فقدت ابناً منذ سبع سنوات بسبب مرض الخنّاق.” كان هذا شقيق إيدا، “هانز كريستيان”. وهذا يعني أن مرض والدتها ربما، على الأقل، كان بسبب الحزن المستعصي على الحلِّ.”

ولإحياء ذكرى الخطوبة، رسم هامرشوي صورة جميلة لخطيبته المتورّدة الخدود. شعر بالسرور كثيراً حِيال لوحته، وعرضها على تاجر الفنون البصرية “بول دوراند رويل” في باريس، الذي اشتراها بسرعة كي يعرضها مع معروضات قاعته الفنية. ويبدو أن “رينوار” كان من بين العديد من الفنانين الذين أعجبوا بها هناك.

كانت باريس هي الأولى من بين العديد من الرحلات التي قام بها الثنائي معاً. يقول وونغ سونغ: “يشكل فيلهلم وإيدا وحدة نادرة وجميلة. وعلى عكس العديد من الفنانين الآخرين، لا يتركها فيلهلم أبدا، ولا يسافر بمفرده أبداً... كنت إيدا تصحبه إلى كل مكان، ومن غير المعروف أن يكون الزوجان معاً على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع آنذاك.”

في عام 1902، تذكر الشاعر الدنماركي “يوهانس يورغنسن”، في مقال كتبه لصحيفة فورت لاند الدنماركية، رؤية الثنائي في شارع فيا ديل كورسو في روما. “لقد بدوا لطيفين للغاية وودودين وضائعين بعض الشيء، الدنماركيان، وهما يقفان هناك يقرآن اللافتة على زاوية الشارع... كانت متألقة بشكل واضح برأسها الأنيق قليلاً، وفستانها القطني الأزرق البسيط بمواجهة لمعان وحفيف طبقات قماشه الحريري.”

خلال هذه الرحلات، كانت إيدا تكتب دائماً إلى والدة هامرشوي؛ فريدريكه. في تشرين الثاني 1890، على سبيل المثال: “لا تخافي، يا حماتي العزيزة، من أن تنتقل عدوى لوحات فيلهلم إلى الفرنسيين، فهناك الكثير لنتعلّمه هنا وليس لتقليده.”


أم مولعة بولدها

كانت فريدريكه امرأة هائلة، فهي تحب ابنها بإفراط منذ ولادته، وكانت تحتفظ بسجل لإنجازاته. كان لا يزال يعيش معها عندما خطب ايدا. ذكر “بول فاد”، كاتب السيرة الذاتية للفنان: “كان على إيدا أن تعيش وهي مدركة باستمرار كونها تحت نظرة حماتها المحبة واليقظة. كانت ساذجة وطيّبة إلى حدِّ مؤثر. كانت ترغب بشدَّة بأن ترقى إلى مستوى دور الزوجة المُحبَّة ودعم زوجها المحبوب.”

وبالطبع، لا يمكننا إلا أن نتكهن بطبيعة العلاقة بين الزوجين. يقول كرامر: “نحصل على لمحات موجزة عن إيدا من خلال بعض الرسائل، ولكننا لا نعرف سوى القليل من التفاصيل الملموسة عن تفاعلاتهما.” من المؤكد أن العدد الكبير من اللوحات التي تظهر فيها إيدا يشير إلى التضامن، وحتى التفاني. يقول كرامر: “اختار هامرشوي رسمها عدة مرات، وكانا يقضيان وقتاً طويلاً معاً.”

من المغري أن نتصور أنهما ربما ناقشا تشكيل اللوحة. ولا يوجد دليل على هذا، رغم أن رسائلها تشير إلى أنها على الأقل فهمت كيف كان هو يعمل. في عام 1912، كتبت: “لقد استأجرنا غرفتين كبيرتين، وسط لندن، يعتقد فيلهلم أيضاً أنه قادر على الرسم منهما. إنه يحتاج دائماً إلى القليل من الوقت للنظر حوله والتمتع به قبل أن يبدأ.”

كما اشترت الزوجة لحبيبها بمناسبة عيد الميلاد نسخة فوتوغرافية من لوحة كان يحبها بشكل خاص، “أبولو ومارسياس” للفنان “بيروجينو، والمنسوبة إلى رافائيل  آنذاك. وتظهر لوحته “غرفة الموسيقى” للعام 1895 أنه علقها حيث قد يقدرها يوميا.

ومع ذلك، لم تكن الحياة كزوجة لهامرشوي سهلة. حتى أقرب أصدقائه وصفوه بأنه خجول أو غريب الأطوار، وقد فوجئت فريدريكه كثيراً عندما ابتعد عن حامل الرسم الخاص به ليوم واحد بمناسبة عيد ميلاده في عام 1906، فكتبت عن ذلك عبر رسالة إلى شقيقه، سفيند.

“أنا لا أرسم بسرعة، فالأمر يستغرق عندي وقتاً طويلاً إلى حدٍّ ما”، هكذا قال هامرشوي نفسه خلال مقابلة أجريت معه عام 1907. والأمر ليس مستغرباً: فعندما تم تنظيف لوحة “داخل ستراندغاد، ضوء الشمس على الأرض” لعرضها سنة 2012، حدَّد أمين الحفظ ما يزيد عن 40 لوناً أبيض مختلفاً.


خوف من المستقبل

قد يفسِّر تفاني هامرشوي في عمله سبب عدم إنجاب الزوجين لأطفال؛ أو القلق من أن المرض الذي أصاب والدة إيدا كان وراثياً: في آيار 1895، كتبت فريدريكه إلى شقيقة هامرشوي آنا: “كان فيلهلم لطيفاً لدرجة أنه عرض عليّ مساحة معهم؛ ولكنني لا أعتقد أنني سأقبل لأنني سأكون تحت خوف دائم من أن تتعرض إيدا لإحدى نوباتها.”

رسم هامرشوي إيدا للمرة الأخيرة سنة 1907. كانت الشهور الاإثنا عشر السابقة صعبة: فقد تم القبض على الزوجين عن طريق الخطأ في روما عندما وجد أن بعض الأوراق النقدية التي اشترياها من مدينة كوبنهاغن مزيَّفة. وتم الإبلاغ عن سوء الفهم عبر الصحف الدنماركية، التي قالت إن إيدا، التي لا تزال حساسة بعد عملية خطيرة أجريت لها خلال العام الماضي، كانت تعاني من صدمة عصبية.

يقول وونغ سونغ إن اللوحة “هي صورة لامرأة لم تعش حياة سهلة، لكنها في نفس الوقت صورة رقيقة للغاية. إنها طريقة تعبير الفنان عندما يقول: هذه هي المرأة التي أتقاسم معها حياتي.”

احتفظ هامرشوي باللوحة معه حتى وفاته، وبعدها اختفت إيدا من السجل، حتى وفاتها سنة 1949. يقول وونغ سونغ: “يكاد قلبي ينفطر عندما أعلم أنها لم تعش لتشهد شهرة أعمال زوجها”. أخبرني أن وفاتها مُدرجة على أنها “انتحار”، على الرغم من أن المزيد من البحث قاده إلى الاعتقاد بأنها “لم تكن انتحاراً عادياً”، والأرجح أن إيدا المسنّة المتعبة اختارت رفض العلاج من مرض.

إذن، بقي الأمر لغزاً حتى النهاية. لا خيوط سيرتها الذاتية، ولا أكثر من مئة تجسيد لإيدا عبر لوحات هامرشوي تقودنا إلى أكثر من مجموعة من التخمينات والافتراضات. إن عقل إيدا وعالم إيدا خارج متناولنا، على الرغم من أن قوة اللوحات هي أننا نستمر في المحاولة.

بي بي سي البريطانية