سيدهارث كارا: الكوبالت الأحمر
ماثيو اكينز
ترجمة وإعداد: نادر رضا
يغطس سيدهارث كارا في كتابه "الكوبالت الأحمر" بعمق في أحوال تعدين معدن الكوبالت والمستفيدين من استخراجه. يعتقد كارا بأنه "طوال عصور العبوديَّة لم يكن هنالك هذا القدر من المعاناة الذي ينتج هذا القدر من الربح والذي يرتبط بحياة الناس حول العالم أكثر مما يحدث في الكونغو اليوم".
والسبب في ذلك أن معدن الكوبالت يدخل في تركيب بطاريات الأجهزة الذكية "الحاسبات، الهواتف الذكية والمركبات الكهربائية.." لذلك فهو معدن المستقبل. ويحتوي الهاتف الذي في يديك على غرامات عدة من هذا العنصر، بعض منها قد يكون تم تعدينها من قبل أشخاص قاموا باستخراجها من الحفر السامة مقابل أجور ضئيلة تصل حدّ الكفاف.
استعمل الكوبالت كمصدر للصبغة الزرقاء منذ أقدم العصور القديمة، وانضم إلى قضايا "الماس الدموي والعمل العبودي" كمواضيع يقف ضدها مناهضو العولمة، نصف احتياطياته موجودة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وهي دولة منكوبة بالصراعات، تنتشر فيها انتهاكات حقوق الإنسان وعمالة الأطفال في قطاع التعدين. في عام 2016 أصدرت منظمة العفو الدولية ومجموعة المراقبة Afrewatch تقريرا ربط شركات مثل "ابل وسامسونك" باستغلال الكوبالت، قطاع التعدين في الكونغو وعد بإصلاحات، لكن منذ ذلك الحين ازداد الطلب على الكوبالت مما أجل الشروع بهذه الاصلاحات، وعمل كارا على التحقق فيما إن حصل تغييرٌ فعليٌّ.
في محاضرة له في مدرسة كينيدي بجامعة هارفارد، كتب كارا عن الاتجار بالجنس والأشكال الأخرى لما يسمى العبودية الحديثة، وهو جزءٌ من مجموعة جديدة تدعو لإلغاء عقوبة الإعدام ويربطون نشاطهم بالكفاح التاريخي ضد تجارة الرقيق.
مثل كتبه السابقة يتبنى كتاب "الكوبالت الأحمر" كشف الظلم من خلال سلسلة من المقالات القصيرة عن الاستغلال والبؤس، حيث يقودنا للطريق المؤدي للحقيقة "رحلة إلى منطقة تعدين كاتانغا نحو مركز استخراج الكوبالت في كولو بري والتي يعتبرها قلب الظلام الجديد".
منذ أن استولى الملك البلجيكي ليوبولد الثاني عليها عام 1885، زود تفرعات نهر الكونغو وروافده العالم بثروات العاج والمطاط وزيت النخيل والماس واليورانيوم. ومع ذلك يعيش اليوم أكثر من ثلاثة أرباع سكان الكونغو تحت خط الفقر في حين أن القليل منهم يحصلون على مياه الشرب النظيفة وعدد أقل من ذلك يحصلون على الكهرباء. أحد قادة المجتمع يقول "لم يستفد شعب الكونغو من مناجم الكونغو، نحن فقط نصبح أكثر فقراً".
تم بناء مدن التعدين في منطقة كاتانغا الغنية بالمعادن من قبل الاحتكار الاستعماري البلجيكي، الذي جذب العمالة من جميع انحاء البلاد، وبعد حصول الكونغو على استقلالها في عام 1960 دعمت بلجيكا تمردا انفصاليا في كاتنغا في سعيها لتقويض رئيس الوزراء المناهض للأمبريالية باتريس لومومبا.
بعد خلع لمومبا من قبل موبوتو سيسي سيكو المدعوم من وكالة المخابرات المركزية الاميريكية، تم القبض عليه ونقله الى كاتنغا ثم تعرض للتعذيب والقتل تحت اشراف ضباط بلجيكيين، سيترأس موبوتو حكم كليبتوقراطي استبدادي دام 30 عاما تراجعت فيه مستويات المعيشة في الكونغو بشكل كبير.
وفي التسعينات انهارت شركة Gecamines التي تولت مهام الدولة البلجيكية الاحتكارية والتي وفرت السكن والأجور الثابتة لعمال المناجم، تاركة وراءها العاطلين عن العمل الذين توجهوا للعمل في للتعدين غير الرسمي أو الحرفي باحثين عن الرواسب المعدنية الموجودة في التلال المبعثرة في كل مكان.
كان الخوف من الشيوعية قد ضمن الدعم الغربي لموبوتو، واليوم يتأرجح الصراع بين الولايات المتحدة والصين على السياسة الكونغولية.
مع الرئيس الحالي Felix Tshisekedi الذي وعد بمراجعة العديد من التنازلات المربحة التي قدمها سلفه للشركات الصينية. تنتج الشركات الصينية ثلاثة أربع الكوبالت المكرر في العالم وهي حاسمة لهيمنتهم على صناعة البطاريات الكهربائية، حيث يتم حفر نحو ثلثي امداداتهم ومعالجتها بالآلات الثقيلة في المناجم الصناعية والتي لا تخلو من عمالة الأطفال والعمل القسري.
لكن الثلث المتبقي يقوم به عمال المناجم الحرفيون "خارج المناجم الرسميَّة" والذين يستخرجون كمية كبيرة من الخام المتواجد أحياناً قريباً من السطح "مثل الزبيب في كعكة" هذا الخام يمكن استخراجه بأدوات بسيطة في مناطق أخرى خارج المناجم ويقوم بعدها السكان المحليون بنخلها وتخليصها من المخلّفات الصناعيّة.
ابتداءً من عام 2008 قام كارا بعدة رحلات إلى أقاليم التعدين في الكونغو وتمكن من الوصول للمناجم بجهود وتفاوض مع المسلحين الذين يحرسون هذه المناجم التي يكدح فيها العمال في حفر وأنفاق مكشوفة بعضها مثل "منجم شبارة" الذي كان هائلا، حيث يعمل فيه أكثر من 15000 رجل فضلا عن فتيان قاصرين ونساء تحمل أطفالها على ظهرها، ويستخدمون المطارق والمجارف ولا يملكون مساحة كافية للتحرّك والتنفّس، لا يرتدي معظم عمال المناجم ملابس واقية ويعملون وسط معادن سامة. أجرى كارا مقابلات مع بعض ممن تعرض لحوادث عمل وإعاقة مدى الحياة نتيجة حوادث العمل، وكان شاهداً على انتشال جثة صبي مراهق من نفق منهار أدى إلى مقتل 63 شخصاً.
العديد من المقابلات التي أجراها كارا كانت تحت أنظار الحراس المسلحين وعلى الرغم من أنه يصف بالتفصيل الفقر والمخاطر التي يواجهها عمال المناجم، حيث السكان المحليون عبارة عن "كرات من الغبار" يسكنون مدناً لا يبتسم فيها أحد إلا الصغار. إن قوة الكتاب تكمن في كيفيّة تحليل كارا وهو مصرفي استثماري سابق للاستغلال الذي ينتزع القيمة والربح من عمال المناجم، ثم يتم تطهير سلعهم الملوّثة عبر سلسلة التوريدات العالميّة.
الكوبالت الحرفي "المستخرج من مناجم غير رسمية باستخدام عدد يدويّة ويمثل ثلث الانتاج الكلي" يشتريه التجار الجوالون من عمال المناجم، والتجار الجوالون هؤلاء بعضهم عمال مناجم سابقون جمعوا ما يكفي من رأس المال لدفع ثمن دراجة نارية أو شاحنة صغيرة، الى جانب دفع الرشاوى والتصاريح اللازمة للمرور عبر نقاط التفتيش، يجلب التجار الخام إلى المستودعات وهي أكواخ صغيرة معروفة باسم "ميزون داتشات". المستودعات بدورها تبيع الخام الحرفي لمنشآت المعالجة "التابعة للمناجم الرسميّة" حيث يمتزج بشكل كامل مع الكوبالت المستخرج صناعياً.. وهكذا يكتب كارا "لا يوجد شيء اسمه سلسلة توريد نظيفة للكوبالت في الكونغو".
هنالك محاولات للإصلاح وتطبيق آليات الشفافية والمتابعة حيث تحقق كارا من موقع تعدين أنموذجي تم اطلاقه بمساعدة منظمات غير حكومية NGO مقرها الولايات المتحدة تلقت الملايين من شركات التكنولوجيا الغربية، لكن تبيّن أن الحاجز الذي يمنع عمالة الأطفال هو سلك شائك فقط، يمكن عبوره بسهولة ويتم خلط أكياس الخامات المنتجة بشكل رسمي مع تلك المجهولة المصدر في منشأة المعالجة، أما موظفو المنظمات غير الحكومية فهم "لا يأتون إلى هنا".
يعطي كارا الأولوية في عملية الاصلاح لمساءلة اولئك الذين يستفيدون من عمل عمال المناجم، ويتساءل عن مدى امكانية تعامل شركات التكنولوجيا مثل "ابل وغوغل" مع عمال المناجم كموظفين بشكل متساوٍ مع موظفيها الذين يعملون في مقر الشركة ممن تتعاقد الشركة معهم هنا في الولايات المتحدة.
إنَّ الاستغلال المفرط للعمالة اليوم متجذر في اقتصادنا الحديث، وهذا الاستغلال هو المكافئ الأخلاقي للعبوديّة التاريخيّة، إنّ استغلال عمال المناجم هو نتيجة لعجزهم، هذا العجز الذي هو نتاج عولمة رأس المال والضغط على سلاسل التوريد لخفض التكاليف وانهيار الرعاية الاجتماعية والمؤسسات التي تديرها الدولة والتحول للعمل غير المستقر. إنّ هذا العجز هو أحد عناصر نظام عالمي من اللا مساواة الشديدة يستفيد منه القلة. بعد عودته من أسفاره يرى كارا الازدهار الغربي بعيون جديدة ويكتب "الحياة في الوطن لم تعد منطقيّة، أشعر بأنّ الهواء والماء النظيف جريمة".
عن نيويورك تايمز