علي لفتة سعيد
يسعى الناقد الدكتور صباح التميمي في كتابه (شِعريّةُ الخِطابِ الرِّوائي في سواقي القلوب: مقاربة سيميائيَّة في العلامةِ ومآلاتِها) إلى تحليل خطاب لرواية يراها هي الأقرب لتحليله النقدي، باعتبار أنَّ الرواية كما يقول في مقدمته: "الخطاب الروائي جنسٌ هجينٌ، أو كائن أسطوري (فرانكشتايني) تشكّل من قطعِ أجساد لخطابات أخرى". ومن هذه المعادلة يرى أنّ المقاربة، أو ما يسميها الاقتراب من الرواية، هي "مغامرة بحدّ ذاتها، لأنّك ستُبحِر فيها من دون بوصلة، فـ (شعريَّةُ الرواية)". لكن الحقيقة هي أن المغامرة بحدِّ ذاتها شيءٌ إبداعيٌّ يحتاجه النقد، وأمر في غاية الجمال تحتاجه عملية الاقتراب من جنس الرواية، خاصة إذا كان هذا الاقتراب أو المغامرة يرتبط بتجربة روائيّة غنيّة ومعروفة كأنعام كجه جي في روايتها "سواقي القلوب".
حيث يرى أنّ الرواية، في محمولها الشعري، أقرب إليه في سعيه لتحليل المقاربة السيميائيّة، لكون الرواية تمتلك "البناء الشعري، الذي يُغري القراءة الشعريّة التي نميلُ إليها بفطرتنا العربيّة؛ والذي تتنفّسُ الروايةُ - من خلالِه - لغةَ الشعرِ، وتصدرُ عن أسلوبٍ يتدفّقُ بماء الشعريّة" كما يقول الناقد، ما جعله يقترب من بحثه من الرواية ليؤكّد أنّ الشعريّة تعمل وفق الأسلوب الجمالي، كونها - أي اللغة الشعريّة - لها: "شحنات من انزياح رجراج، مؤجّلةً معانيها، مُؤْثِرَةً السكوت عنها، وتلك صفاتٌ تُقرّبُ الروايةَ من منطقة التشعير الكلّي، فتنتمي لما اصطُلِحَ عليه بـ "الرواية الشعريّة"، أو "الرواية القصيدة" المبنية على مبدأ تشعير السرد، أو تسريد الشعر".
إنَّ من الضروري أن تتوجه الكتابات المنهجيّة إلى المقاربة ما بين الجنس الأدبي عمومًا والروائي خصوصًا لتأكيد فحوى الاكتشاف، لا مهمة الإفصاح. وفحوى الدراسة، لا مهمة المرور السريع على المضامين الطافحة. بل هو لا يريد الركون في هذا الكتاب إلى ما يسميه: "قراءة متعالية تُسقِط مبادئَ المنهج على المتن المقروء عنوة، فهذا الركون ينطوي على حيفٍ كبير". وهو بالتأكيد جهد نقدي يريد منح المفاتيح الدلاليَّة التي يستخرجها من النص، ليس لتحليل الخطاب الروائي فقط، بل لتبيان ما استنتجه من خاصية حضور الشعر أو التسريد الشعري أو اللغة الشعريّة في النص الأدبي. على الرغم من أن الأمر ليس جديدًا، لكنّه إجراء منهجي نقدي ليكون التعالق وكأنّه احتراز مهني من أجل أن "يُجنِّب القراءة الوقوع في مطب النظرة المتعالية للمنهج، فهي تحاول أن تلجَ ولوجًا ديناميًّا حُرًّا في جسد المقروء، بخارطة طريق يمنحها إيّاها هو عن طيب نفس".
ولكن الأمر الذي سلكه الناقد هو تقريب المصطلح من خلال الاستعانة بـ "المنهج السيميائي"، وتلك ميزة المغامرة التي من خلالها يؤدي إلى "افتتاح مجهول اللغة، ومُلغَّز البيان، بعد أن يُضيء خفايا الأولى، ويكشف أسرار خبايا الثاني".
الكتاب له أكثر من مدخل؛ الأول كان البعد التنظيري الذي "يستجيب لرؤى الدراسة التي تحاول ترسيخها، وممارستها إجرائيًا على المتن الروائي المُنتَخب"، باعتبار أنّ الخطاب الروائي هنا مازج بالشعريّة من خلال العين السيميائيّة، وهو ما عناه بـ "التعدد التشكيلي". ويتفرّع من هذا الفصل أكثر من مفصل، أولها "في الخطاب والخطاب الروائي"، و"في الشعرية وشعرية الخطاب الروائي". ليأتي "البعد الإجرائي"، وهو البعد الذي يُستلهم من شعرية الخطاب في الرواية ذاتها، باعتبار أن الخطاب الروائي كما يقول: "تلفظ مصنوع من كلمات". فإنّه يذهب إلى تحليل هذا الإجراء عبر أكثر من نقطة: الأولى "سيميائية بيان العنوان"، والثانية "سيميائية بيان البداية"، والثالثة "سيميائية بيان المتن – العرض"، أما الرابعة فقد كانت "سيميائية بيان النهاية". إنَّ فاعليَّة الكتاب تكمن في جهد التميمي الذي يريد تقريب المصطلح وتحويله إلى كائن مقبول في الترويض الإشكالي. ولذا فهو يستنتج أنّ الرواية منحت هذه الصبغة الاشتغالية في إيجاد علاقة بين الشعريّة والعين السينمائيّة، وهو ما يعني دراسة شخوصها وحركتهم ودراسة اللغة وتعبيرها الشعري، باعتبار أن الرواية تشتغل على: "إثارة حُزمة من الأسئلة التي تُغرَس بإلحاح في أعماق نفوس المغتربين كلّهم". كونها أيضًا نجحت - أي الرواية - بحسب رأي الناقد على المستوى الفني والإجرائي في ما أسماه بـ "خلخلة الراكد السردي"، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع منسوب الشعريّة من جهة، والسيميائيّة من جهة أخرى، "عبر تشفير لغتها، وتشعير جُمَلها، واستدعاء الرموز الفنية المحليَّة التي لها مردودها الدلالي، وحضورها المتجذّر في الذاكرة الجمعية العراقيّة"، ليصل إلى استنتاج أنّ الرواية: "شاعريَّة مُكتظّة بالبيان الساحر الذي تجاوز وظيفة الزخرف الفنّي إلى وظيفة العلامة السيميائيَّة الفاعلة على مستوى المتن السردي بأكمله، بعد أن تضاعفَ مردودها الوظيفي في لغة الرواية من الثنائية "جمالية معنى المعنى" إلى الثلاثيَّة تحقيق "المعنى السيميائي" المُشفّر، وهكذا كادت الرواية أن تصبح خطابًا رمزيًا، بفضل ما احتقبت من معانٍ موحية غير مباشرة".