أ.د. باسم الأعسم
شكّل نسق القبح المهيمن في العرض المسرحي الافتراضي الموسوم بـ "قطار بصرة لندن"، تأليف وإخراج الفنان مناضل داوود، والمتمثل بالحرب، علامة سيميائيّة فارقة، مع اكتظاظ العرض بالنقائض، التي شيّدت بنية نص خطاب العرض المسرحي "الحرب والسلام، الموت والحياة، الهجرة والبقاء، البرد والحر، البصرة لندن، الذاكرة الحية، واللا ذاكرة"، وسوى ذلك من نقائض عول عليها المؤلف المخرج مناضل داوود في رسم ملامح الصورة الكلية للعرض المسرحي، وذلك بالاتّكاء على مهارة الأداء التمثيلي، وقلة الشخصيات، مع جدحات النص الموحية.
لقد أسبغت تلك النقائض على العرض تشفيراً رمزياً دالاً على معطيات الحرب، كالأسى الذي عولج بسخرية مرة، عبر المفارقات التي أحكمت بنية النص، ونص العرض السردي الذي شيد على حدث فجائعي رهيب في الماضي القريب، والذي تمثل بالحرب كما قلنا، تلك الحرب التي مسخت الحب، وابتلعت البلاد، وأدمت العباد، وكما ورد في النص "حربنا حيوان جائع ابتلع البلاد"، فكانت الحرب على وفق هذا التوصيف، هي الكفة الراجحة في العرض، وأن الموسيقى هي المعادل الموضوعي، وثمة تناوب ايقاعي بين الحوارات والمعزوفات المتنوعات.
هذا العرض المسرحي، كافكوي بامتياز، عزف فيه المخرج على وتر المشاعر النفسيّة، على وفق ايقاعات أدائيّة متوثبة، توافقت مع إيقاع قذائف الحرب، بنسغ متوالٍ، وبياني، على ايقاعات العزف الحي، والممثلون فقدوا ملامحهم، فكل شيء يوحي بالخوف والريبة والقلق في عرض يقسو على ذوات الجمهور، كما قسى "آرتو" في مسرحه، لغرض اثارة النفور، والتقزز في النفوس، لتجسيد صور القبح عبر جمالية الأداء، ودلالاته الواضحة التي شيدت على متن ذلك الرصيد الهائل من الحكايا، والاستذكارات، والأحداث الملطخة بالدم ابان الحرب، وعلى حد قول الممثلة نجاة "الحرب أكلت أخوتي الواحد تلو الآخر"، مع الإشارة الى غياب الأفعال في نص العرض، فتسيّدت من جراء ذلك الانثيالات، والمواقف المؤسية، التي صيغت سرداً ادائياً متلاحقاً، لتحقيق النسق الجمالي المضاد للمشاهد المولدة للقبح "صفير القطار، الطرق على الباب، دوي المدافع، مرارة الواقع، توالي الفواجع".
ثمة رتابة قد عمت فضاء العرض، كان من أسبابها غياب التكوينات، أو التشكيلات الحركية، الجمالية، على صعيد أجساد الممثلين، أم عناصر السينوغرافيا بنوعيها الثابتة والمتحركة على حد سواء، كيما تترسّخ ثيمة العرض في أذهان الجمهور، في حين تسيّد الحكي على وفق لغة مكتنزة بالمجازات والتوريات بقصد التأكيد على خصوصيّة الحدث المنتقى بوساطة الحوار، وهذا هو هدف المؤلف والمخرج الذي حرص على إيصال فكرة العرض بأبسط الوسائل من دون بهرجة.
لقد اشتمل العرض على مفارقات لغويّة ذات دلالات واخزة عمّقت سلطة التأويل لدى الجمهور على وضوحها المتوافق مع وضوح العرض، الذي تعددت اشاراته الموحية، ومنها: الإحالة الى الثقافة، عند الإشارة الى رواية "المسخ" لـكافكا، واهمية الكتاب، ومن ثم المثقف، الذي لم يسلم هو الآخر من ويلات الحروب "أنا سرقت الكتب، لكنّهم سرقوا ذاكرتي، وعمري"، "لكن السرقة حرام، إنها الحرام الجميل" إنها بإيجاز جمالية القبح.
أما الضحك، والهلاهل، والقهقهات، فقد وظفت بنحو تغريبي، لبث اشعاعات ادائيّة مغايرة، تنطوي على مفارقات مؤسية، حتى أن الممثلين الذين مسخت شخصياتهم، تراهم يمثلون على وفق صيغ ادائية ليست تقليديّة، لتسريب الانفعالات السيكولوجية، بقصد الإشارة الى قسوة الحرب والهجرة على الذات الإنسانية.
إنَّ الأهم في المقاربات المسرحية، التطبيقيّة، كالعروض المسرحية، هو البحث عن مولدات الجمال، وكيفية مقاربتها في بنية المشهد المسرحي، وإن كانت قبيحة، انطلاقاً من اعتبار القبح، مقولة جمالية، بالإمكان الاشتغال عليه، لاستنطاق المضمر الجمالي في ثناياه، وما ينطوي عليه من تضاعف القيمة الفنية والتعبيرية، في خطاب العرض المسرحي، لا سيما على الصعيد البصري، لتحقيق أعلى درجات الاتصال الجمالي مع الجمهور. وما بين اللامعقول والقسوة، تشاد أرضية النص، ونص العرض، فيغدو البحث عن الحب، والألفة، والسلام، والمنطق، والطمأنينة، محض خيال، وكما يفتتح العرض بسؤال "لا أحد؟" ينطقه الممثل ليشير ضمناً الى الاغتراب الروحي، والاجتماعي، والعاطفي، بفعل ما احدثته الحرب والتهجير من عبث ودمار، حتى أصبحت الحياة رديفة الموت "هكذا هي حياتنا دائماً بالمقلوب"، فأضحى فقد الحرية والأمان العلامة المائزة، كما أصبح التباعد واضحاً بين الممثلين المجسّدين للفئات الاجتماعية المتنوعة، مثل الممثل "صليوة المسيحي" و "نجاة المسلمة"، وعمقهم الإنساني الكبير، لكن الشخصيات فقدت كل شيء "إنني لا املك أي شيء، لأنني فقدت كل شيء"، وأصبح الممثل والممثلة خطين متوازيين، مهما امتدا لا يلتقيان، بفعل الحرب.
وبين الموسيقى الحية ذات الايقاعات المتنوعة والإضاءة الكاشفة لعتمة فضاء العرض، والخلفية الساكنة، تأسست سينوغرافيا العرض التي كانت في مسيس الحاجة الى تصعيد النسق البصري، لترسيخ فكرة النص وسخونتها على وفق معالجة بصريّة تثير الدهشة وتشيع الجمال والترقّب.
إنَّ فكرة العرض قد اتّضحت منذ استهلال العرض، وما تلى ذلك فهو تنويع سردي على ذات الفكرة، فاستطال العرض بعض الشيء، مع يقيننا أن المخرج مناضل داوود، قد عالج القبح، عبر جدل النقائض، فجعل البقاء للجمال والإنسان والمكان من خلال الإشارة في النص الى الشاعر السياب كرمز ثقافي دال على المكان والشعر والجمال، في ما شُيّد الديكور من سكك القطارات التي بدت وكأنّها أجساد الأخوة الموتى، للدلالة على الموت والبيت الخراب الذي تنبعث من أطلاله الموسيقى للدلالة على جمالية القبح.
وباسترخائه الجميل شغل الممثل محمد هاشم الحيز الأكبر في فضاء خشبة المسرح، بأداءاته المتنوعة والمشوقة، وقد تقاسمته في ذلك الممثلة نجاة "رضاب أحمد" ذات المرونة الجسديّة والصوتيّة، التي أكسبتها ذلك الحضور المبين، مع ظلها الوارف، الممثلة نجاة الصغرى فاطمة فراس، مع الإشارة إلى أن جمالية هذا العرض تكمن في بساطته.