منعم فرات.. فطريَّة ولكن

ثقافة 2025/01/12
...

 محمد طهمازي 


إن من أطلق اسم الفنّ الفطريّ على النتاجات التي ينجزها أشخاص ليست لديهم معرفة بما يفعلونه، بل هم ينجزون تلك الأعمال بدافع الفطرة كان بلا شك يقوّض الأساس الإبداعي لأعمال هؤلاء الذين يدعون بالتبعية لهذا المصطلح، بالفنانين الفطريين، ويلغي القيمة الفنية لتوجههم غير المُتقيّد بأي قواعد وغير المستند لثقافة فنية، حيث إنه يقتفي مسلكا غريزيا في التعاطي مع المواد وتكوين المعمار الفني والتعبير عن الأفكار، وفي هذا، تحديدا، أود البحث في أعمال الرجل الريفي منعم فرات.

إن من تناول منحوتات فرات قام بإرجاعها لتأثره بالفن السومري القديم مستندا لتواجده في محيط من اللقى المبعثرة والمهملة، بقصد أو بدون قصد، لتلك الحضارة البكر العظيمة، بيد أني لا أتفق مع كل تلك الآراء، ليس من مبدأ المخالفة، بل من منطلق بحث في تاريخ الفن وعلم النفس الذي ينفي مرجعية أعمال منعم إلى الفن السومري. 

إن الفن السومري قد يكون محفزا في أضعف الفرضيات ولا يتجاوز ذلك إلى حد كبير، حيث إن منحوتات منعم فرات أقرب ما تكون إلى فن النحت الافريقي ونحت أميركا الجنوبية، والذي يخضع للرؤى الطوطمية التي تدخل منطقة الأحلام والكوابيس وإسقاطاتها في التراث الشعبي، على العكس من الفن السومري الذي يعتمد هيكلية أسطورية بمنطلقات خيالية تتمظهر في البنية العبادية مع عدم إنكار الجزء الطوطمي المحدود. 

إن الأمر لا يقف عند هذا الحد النظري، بل يذهب بعيدا على مستوى الأشكال المنحوتة التي لا تشابه الفن السومري إلا في ملامح بسيطة. وأنا في تشبيهي لمنحوتات منعم بالنحت الافريقي ونحت أميركا الجنوبية فأنا لا اقصد اقتباسه أو تقليده له نهائيا، وإنما قصدت بذلك البواعث الغريزية التي تتعاطى مع عالم اللاوعي عند الكائن البشري البسيط وتخرج منها كائناته التي تتخذ لها أشكال مقتبسة من محيطه الحقيقي، لكنها تغلف بالغموض والخوف. 

إننا في أعمال فرات نتعامل مع عالم بدائي في دوافعه ورموزه وطرق تعبيره وليس فقط في المواد المستخدمة في التشكيل. ولطالما وصلنا إلى منطقة التشكيل، فعلينا الإشارة إلى خضوع منعم فرات إلى ذات المشكلات الفنية التي عانى منها النحات الرافديني الأول، وهو شبه انعدام الخامة الحجرية المناسبة للنحت أولا، التي كانت تعرقل عملية تطور تقنياته في التعاطي مع الأحجار مما يجعله يقدم منحوتات حجرية متراصة الأطراف أي أنها خالية من الفراغات التي تفصل أجساد الشخوص عن أطرافها يضاف لها الخشية من تكسر الكتلة النحتية في حال السعي، لتحرير تلك الأطراف كون الحجر المستخدم غير متعاون مع عملية النحت.

قد يقول قائل، وهذا متوقع جدا، بأن فن النحت السومري قد بدأ فطريا هو الآخر، وهنا يجب وضع حد علمي وفني لهذا الطرح غير العلمي وغير الفني. إن فن النحت السومري كان نتاجا متفردا، أي أنه لم يكن في محضر التقليد لفن شائع، بل كان مرحلة مهمة ضمن سلسلة تطور الامكانات الفنية، لدى الإنسان حينما بلغ للمرة الاولى مرحلة النضج الحضاري، الذي سبقته مراحل من الفن البدائي وليس الفطري، ولم يكن بعد قرون من التطور الفني أو الحضاري كما هو الفن الفطري، ولم تكن هنالك مدارس او فنانون لتعليم الفن، وهذا مختصر لبحث مطول في هذا المجال، فليس هنالك أي حجة لربط الفن السومري بالفن الفطري، أو ربط أعمال منعم فرات بعد ٧٠٠٠ سنة من الفن السومري وما تلته من فنون حتى يومنا هذا. يقول سيغموند فرويد "علَّمتنا القياسات البيولوجية المهمة أن التنمية النفسية للفرد هي إعادة قصيرة لمرحلة التنمية للسلالة البشرية، لذا فإنه مع مضي أيام عمرنا نرى الأشياء على نحوٍ مختلف، لا سيما الأطفال فهم يرون الأشياء على غير ما يراها البالغون". إن منعم فرات هو وجه من وجوه الطفولة البشرية التي تطلق لفطرتها أو رؤاها وكوابيسها الغريزية العنان، وقد وجد متنفس كل ذلك في النحت بمساعدة البيئة والعناصر الأثرية التي احتك بها وحفزته على هذا التوجه. ولو تأملت العناصر البشرية على سبيل المثال لوجدت أجسادها بنسب حجم الأطفال، وهي ذات النسب التي يرسم بها الطفل شخوصه، وهي خالية من تشريح حقيقي، وتراه يمنحها عيونا كبيرة مميزة كما الطفل، وكما فعل النحات القديم في بدايات مشوار تجربته التقنية والفنية، وكذلك الحال مع الكائنات الحيوانية أو الممسوخة، نوعا ما، المرافقة نراه يمثلها على وفق الانطباع الكامن في لاوعيه لشكل ذلك الكائن.. إننا نتحرك في منطقة بدائية من اللاوعي البشري، وهي تحوي خزينا من الاندفاع نحو الاكتشاف والتعبير عن الذات معا.