مرثيَّة لأنين الوجد.. تفاعل العالمي مع المحلي

ثقافة 2025/01/12
...

  ابتهال بليبل 

هناك وصف لأعمال الشاعرة سليفا بلاث (1932 - 1963) أجده دقيقاً تماما، إذ يقول: كأنها نتاج لامرأة ميتة، إذ تبدو هذه القصائد (كما لو كانت قد كتبت بعد وفاتها، وكأن القصائد جمعت نفسها في حشد من القتلة وجرتها إلى الفرن)، ولكن الآن، أجد في مقطع قصيدة بعنوان "مرثية لأنين الوجد" للشاعرة نور وليد، كيف يتفاعل السرد العالمي مع المحلي الذي ينصب في مسألة تمكين المرأة، تقول: (سجنتني امرأة عربية في ثلاجة/ ثم أدخلتني فرناً/ والمرأة العربية.. ذكية/ لم تتركني داخلهما/ أخرجتني قالباً محطماً وضعته في مخيم التقاليد).

لقد تشكلت لدي رؤية خاصة عن قصائد نور وليد، من خلال قراءة مجموعتها الشعرية التي تحمل عنوان قصيدة "مرثية لأنين الوجد.. مواربة"، وكيف استعملت (قوة نفسها) كخطاب عبر تقنية التمثيل والتحاور، فطيلة الخطاب الذي قدمته المجموعة استعانت الشاعرة بالعديد من الأمثلة أو الرموز الموحية عن شخصيات نسائية مشهورة أو حوادث عالمية، كبيانات لدعم ادعاءاتها المحلية. إذ تزعم أن الثقافات الحالية تعاني من عدم المساواة بين الرجال والنساء، وأن التقاليد هي من صنعت الإناث، وأننا كمجتمع لدينا واجب تغيير ذلك: (سيد القصر/ قال: تعالي نفترش الأنين/ وننام فوق سرير الدمع./ قلت: لن آتي لحرائقك/ زحزحتني/ وفوق ركام الخريف/ أضعت عري اللحظة../ صمت الليل على باكورته./ صمت/ وانقضت سهرة شهريار بانتصار أليم/ إذ لم تستطع شهرزاد إيقاظ الحدث/ لقصة مؤجلة/ وعندما خرجت من القصر/ كخيالات فجرية.. قابلت شهرزاد كانت لا تزال جميلة/ قلت: لم؟/ قالت لأني لم انقذ النساء ولم انقذه.. فصمتُ.../ المرأة العربية.. شهريار.. سيد القصر.. قنطرة الرومي.. وأنتَ.. صنعوا جميعا إنساناً يدعى أنثى).

وهناك قيد آخر تواجهه نساء مجموعة نور وليد، وهو التمييز الجنسي الذي يُفرض علينا بناء على المعايير المجتمعية. وبالإشارة إلى القصائد، تناقش الشاعرة صعوبتها مع النسوية في مجتمعنا، بل وحول العالم، إذ تشير إلى أن الثقافات المختلفة تنظر إلى النساء بشكل واحد وفكر واحد، ومن ثم، هو قيد آخر. ومن خلال هويتها كأنثى نجد "قصيدة أضداد": (تتزاحم الأضداد وأولد/ أحمل غباري وأرحل/ لأفرّ هاربة منك/ لمكان لا أنا فيه ولا أنت).

تُجسد نساء القصائد شعورهن القوي بأن حياتهن قد تشكلت من خلال التوقعات الاجتماعية تجاه الأنوثة، وبحسب تعبير النسوية "هيلين سيكسوس"، فإن الشاعرة أرادت أن تعيش ذاتها من الداخل". فهي تكتب عن نفسها وعن النساء الأخريات لإظهار مصادر اللاوعي لديهن. إذ تتحكم الرؤية اللاواعية،  بوعي في إنتاج نص ملم بالتفاصيل كلها.

كتبت فيرجينيا وولف أن "النساء وصلن إلى نقطة في التاريخ سئمن فيها من تذكيرات اضطهادهن، وتحركهن بشكل أكثر فعالية عبر مناشدات قوتهن وذكائهن وإحساسهن بالمسؤولية". ومن ثمّ تتصور وولف انتقالاً من "النسوية الضحية" القديمة التي شجعت النساء على تعريف أنفسهن من خلال القمع والضعف إلى "نسوية قوية" جديدة تشجع النساء على تعريف أنفسهن من خلال الرغبات والأحاسيس وتأثير أنوثتهن. 

وكما هي طبيعة ما بعد الحداثة التعددية لما بعد النسوية، لا يوجد شكل واضح أو متجانس للنسوية القوية، بل إنها ببساطة ما يجعل "النساء أقوى بطرق يحق لكل امرأة أن تحددها لنفسها". ومع ذلك، فإن إحدى الطرق التي تحققت بها "نسوية القوة" كانت في ساحة العلاقات الاجتماعية والرومانسية بين الرجال والنساء. 

إما بالنسبة للجيل الجديد الذي نشأ وكأنه أنموذجا للأنوثة المحررة بأسلوب حياة مختلفة عن التقليدي، فأن قصيدة "بقايا رماد" لنور وليد: (تحكم نسيجك وتدعني أهرب/ أمزق نسج عناكبك وأرحل.. فوق سماء الوجود/ تهزني العاطفة/ أقف.. أبحث/ أراك ترمقني بلا عيون ولا ايدي/ ترسم لي بجسدك المجروح أحلاما/ أراها تخرج ركاماً على المسرح/ الجمهور يترك الركام ويمضي/ أبقى وحيدة أنا/ أمامي اشلاؤك عارية مبعثرة/ أتعذب وبلا دموع أبكي/ تسلط علي أضواء مسرحك/ تجردني الأضواء جسداً حريرياً/ بحنان تأخذه ساعداك إليها/ تتسلل الحياة إليه/ أنهض من مرقدي/ أقبل جبينك وارحل فيك) تتماشى مع المأزق الأنثوي المعاصر المتمثل في الخصوصية المحدودة والسيطرة الذكورية، خاصة عندما نرى (يدان بلا جسد.. يتحول إلى نسج عناكبك). إذ إن إضفاء الطابع الجنسي، فكانت امرأة القصيدة بموقع المقاومة والتحدي عند النسوية. ومن ثمّ، فإن النص يصور الذكر كمترصد يلاحق الأنثى وينقض عليها.  ومن ثمّ يُظهر الأنثى على أنها فريسة - نسمع دائما أن النساء معجبات بدور الفريسة وتعتبره دوماً مكافأة للرجال الذي يسعى للحاق بها بلا ملل أو تعب- وبعد أن ينقض على مساحتها، ويقيدها بفقدان خصوصيتها التي كانت بقبولها أخيراً. 

وكما يشير ظهور لـ "أنا" التي تحصر الأنثى في صفاتها الجسدية فقط، ورغم إسكات الذكر وإضفاء الصفة الموضوعية عليه على ما يبدو، فإنه في سياق التسلسل، أي عودة الأنثى لاحتضانه، يبرز كقوة فعّالة عليها ويبدو وكأنه الشريك المهيمن. 

والواقع أن التسلسل بأكمله يستند إلى التزام الأنثى بالذكر، ولكنها في الوقت نفسه تمثل القدرة الظاهرية للنظام الأبوي على احتواء الأنثى، فإن (أنهض من مرقدي/ أقبل جبينك وأرحل فيك) يمثل تحدي الأنثى للتوقعات والحدود الصارمة المفروضة عليها. لا يشير هذا المقطع إلى العودة لأحضان الذكر وقوانينه، بل إلى الردة: رفض الأنثى أن تكون مقيدة أو متوافقة مع مخيلته ومنطقه. فنرى بوضوح الرفض النسوي للمثال الذكوري في الحب والتحول نحو رؤية أكثر رصانة تُروى من منظور أنثوي. ومن ثمّ، تقدم "بقايا رماد" عرضاً ونقداً وتفكيكاً لصعوبات تحقيق الذات الأنثوية في العلاقات العاطفية بما يتماشى مع سياسة "ما بعد النسوية" المعاصرة. 

نصوص نور وليد  دليل على التماهي بين الأفكار الدقيقة، التي تتبناها النساء في العالم أجمع، ولكنها تظهر في صورة شعرية بليغة، حيث تأخذ من كل شاعرة صفة ما، فتبدو وكأنها محلية وخاصة.