أنسنة الحرب ثقافياً

ثقافة 2025/01/12
...

  عادل الصويري


مع مشاهد الهوسِ بالنفوذ، والسيطرةِ على العالم، حتى وإن كلَّفَ ذلك إشعال الحروب، واقتتال البشر، صار لنا أن نسأل وبواقعية مُلِحّة: ما الذي تبقّى في هذا العصر الملتهب من نبوءة (الحب الأخوي)، التي أعلنت عن نفسها في القرن التاسع عشر كمنتج فكري وفلسفي أنجزه تشارلز داروين؟

قال داروين في كتابه "أصل الإنسان": "لَمّا أن ضرَبَ الإنسان بقدمه الثابت في مدارج المدنية، واتحدت الفصائل الصغيرة فكوّنت جماعات كبيرة؛ همس وحي الغريزة في ضمير كل فرد من أفراد تلك الجماعات، بأنه ملزم بأن يمد يد الحب والعطف، بكلِّ ما أوتي من الغرائز الاجتماعية، إلى كل أعضاء الجماعة التي هو تابع لها، ولو لم يكن على صلة مباشرة بهم. أما وقد وصلت الإنسانية إلى هذا الحد، فلم يبقَ أمامها من حائل يصد موجة الحب الأخوي، والعطف المتبادل أن تطمو على خبائث الطبع الحيواني".

داروين هنا، يتنبأ بمستقبل الإنسانية التي ستحطم القيود بمدنيتها العابرة للهويات الفرعية متجهة إلى سعادة "النوع البشري". دعونا نقرأ المعطيات الحالية على وفق نبوءة داروين في النص المقتبس السابق، وفي ضوء علاقة نظريته التطور، بنشوء الآداب، وأنَّ الارتقاء الإنساني يكون من خلال الإحساس الأدبي الذي يُحفز الإنسان ويساهم في رُقِيِّهِ فرداً وجماعة. فهو إحساس عالمي وعفوي مشتق بحسب النظرية من الطبيعة البشرية، والغريزة النفسية التي تُنتج المتعة الجمالية واللذة التي تقود إلى الخير الأسمى كما يرى "أرسطبس" في هيدونيته.

في المعطيات الإنسانية الحالية، هناك في سوريا مجموعات تكفيرية متشددة، كانت مركونة مؤقتاً على رفوفِ الخفاء، بانتظار لحظتها التي تفرضُها الصراعات الدولية، وعلى أساسها تمنح إشارة التحرك راكلةً أي ثقافة أخلاقية، أو إحساس إنساني. هذه الجماعات هاجمت بعض المدن السورية في مشهد قريب من أحداث 2011 وما رافقها من انهيارات وتشظيات إنسانية.

ترى، كيف تعامل المعنيون بالأحاسيس الأدبية الناتجة عن الغريزة النفسية البشرية، التوّاقون إلى الخير الأسمى باللذة الاستثنائية والمتعة الجمالية.

يبدو أنهم ركلوا القيم الجمالية، وأشاحوا عن الغريزة النفسية المتقاطرة من هذيانات الأستاذ الدارويني، وراحوا يتغنون بالواقع المفروض عرقياً وطائفياً، حيث مشاهد التخريب والترويع، وسؤال المدنيين "الأسرى" عن توجهاتهم وانتماءاتهم الدينية. واقعٌ مصحوبٌ بضخ إعلامي هائل الكثافة، فضلاً عن دخول أعلى الحداثات التقنية ممثلة بالذكاء الاصطناعي على خط تفنيد ما قال به تشارلز داروين. 

إذن، المعنيون بالجمال صاروا صدى لشعارات متطرفة تدعو للذبح والتطهير العرقي تحت لافتة الحرية؟ أية مفارقة هذه؟

يبدو أننا أمام نمط جديد من أنسنة الحرب تختلف عن تلك التي دعا إليها الأديب الفرنسي "رومان رولان" حين دعا أيام الحرب المدمرة في أوروبا لما يعرف بـ "أنسنة الحرب" عبر تشكيل جبهة تضم الأدباء والنقاد والفنانين والعلماء، وهؤلاء يشتبكون إيجابياً مع مجريات الحرب؛ لتشكيل موقف سلمي ثقافي يرفض كل أشكال التدمير ورفض المعاناة الجماعية التي تخلفها الحروب البشعة والموغلة بالتوحش. مهمة المثقف وفق رؤية رولاند تنحصر في احترام الإنسان مؤيداً كان أو معارضاً، واحترام المثل والقيم العليا من دون الالتفات إلى التصنيفات الثانوية التي قد تلعب دوراً سلبياً يعيق حركة العدالة الاجتماعية، ويعبث بمفهوم حرية التعبير. 

النمط الجديد لأنسنة الحرب من بوابتها الثقافية الصفراء، يتمثل في تجميل الممارسات غير الأخلاقية للجماعات المتشددة في بلد حضاري متنوع مثل سوريا، وذلك من خلال ثنائية واقع أسود قاتم وإعلام وردي رومانسي. واقع يُظهر على العلن كيف يتم سؤال المدنيين عن خلفياتهم الطائفية والعرقية، مع تهديد علني بالذبح، وإعلام يُظْهِرُ على شاشاته نساء غير محجبات وبملابس تعكس الموضة وهن يرقصن ويغنين حاملات علم الدولة التي تبشِّر بها الجماعات المتطرفة؛ لتوهم العالم أنَّ الطبقات الاجتماعية المدنية مع تلك الجماعات، بينما المجتمع الدولي يُصنِّفها جماعات إرهابية. هذا المشهد يُذكّر بالانفعالات الجماهيرية المؤقتة والصاخبة، التي تحدث عنها غوستاف لوبون في (روح الثورات والثورة الفرنسية)، والتي تعكس اضطراب المزاج الجماهيري، وتبدل أحواله كمظهر من مظاهر رد الفعل العاطفي، تجاه الأوضاع الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها. 

كما أن الإعلام ذهب بعيداً في رومانسيته حين قامت مؤسسة إعلامية كبرى مثل BBC باستضافة زعيم تلك الجماعات الذي يظهر بلحية خفيفة، ويتحدث بمنطق أقرب للعقلانية، وهو ما يؤكد أنسنة الحرب في نمطها الجديد.