موت الأب أحمد خلف

ثقافة 2025/01/12
...

  حسن الكعبي


الروائي والقاص (أحمد خلف) يُعدُّ أحد  الأسماء المهمة في المشهد السردي العربي ، وهو من تلك النوعية التي امتلكت ذلك الشغف التجريبي ، واختبار التقنيات السردية في مسار تطوراتها المذهلة في المشهد العالمي وانتقالاتها الحثيثة في بناء جماليات السرد ، منذ مرتكزاتها الكلاسيكية إلى مرتسماتها الما بعد حداثية ، وقد كانت للراحل إسهامات كبيرة في هذا المجال أسهمت في تطور الرواية والسرد العراقي والعربي بشكل عام ، ورغم اختبارات الراحل التجريبية للتقنيات الفنية في معمار نصوصه السردية ، إلا أنه ظل يحتكم إلى ثِيمة ومحور أساس بنى عليه نصوصه الروائية والقصصية ، ويقصد بها انشغالاته في إبراز الطابع النفسي لشخصياته ، فالشخصيات عند الروائي خاضعة لإكراهات عُقدها النفسية، سيما الشعور بالاضطهاد وكذلك نظرتها الارتيابية حِيال مفاهيم العدالة والحرية و( فوبيا ) المستقبل والمجهول .

إن تحكُّمات هذا النسق في أعمال الراحل من السمات البارزة في اشتغالاته السردية سواء في أعماله الكلاسيكية التي اختبرت التقنيات الفنية ضمن محدّداتها التقليدية ، وإلى أعماله التي مثلت اختباراً للتمثيلات التقنية الما بعد حداثية والتي ناسبت المزاج الشخصي للروائي الراحل ، فأعمال الراحل بمثابة تمثيلات للسيرة الذاتية،  وذلك ما توحي به منجزاته السردية وأعماله القصصية باعتمادها الوثيقة التسجيلية كشغف لازم الراحل على امتداد رحلة عطائه الأدبي.

ارتكازاً إلى أعماله السردية الأولى كـ(مجموعة تيمور الحزين والعمل المهم و صراخ في لعبة)  يبرز ذلك الشغف في غور الروائي في تفصيلات شخصياته وإبراز الطابع النفسي لها ، وما يحفُّ بالشخصيات من عُقد ( البارانويا) والارتياب حول الواقع والتشكُّك به ، وبالمفاهيم التي يلتحفها ، فـ( صراخ في علبة ) وهو عمل قصصي طويل يتمحور حول نشوء الديكتاتور المحلي وما يترشح عنه من أذى على الصعيد الاجتماعي ، وعن إسهام المجتمع المحيط بهذه الشخصية الديكتاتورية المضطربة في هذه الصناعة التي يحيل الروائي من خلالها إلى مفهوم صناعة المجتمعات للظواهر الاستبدادية في الواقع.

تؤشر هذه القصة الطويلة نزوع الروائي لاختبار الرمز والتجريب الفنتازي في بناء سردية مهمة تحيل اإلى الواقع المأزوم وإنتاجيته لمفاهيم الاستبداد وغياب العدالة وتراجعات الوعي الاجتماعي وإسهاماته في صناعة الأزمة ،وهو عمل يمتدُّ بأسبابه إلى تيار الواقعية السحرية الذي كان سائداً في تلك الفترة .

 في الأعمال التالية لهذا العمل ، ظل الروائي أميناً على تمثيل هذا المنظور الارتيابي الملتحف بأعماله السردية ، ففي رواية ( الذئاب على الأبواب ) المتمحورة حول سيادة ظاهرة الإرهاب في الواقع الاجتماعي العراقي , يؤكد الروائي على غياب المفاهيم الجمالية وسيادة عالم القُبحيات في سياق العَنونة الروائية الدالّة على غياب مستقبل يبشِّر بظهور مفاهيم العدالة والقيم الجمالية المترشِّحة عنها .

في هذه الرواية وفي غيرها من الأعمال التالية التي تمثل المرحلة الحداثية في اشتغالات الراحل ، تهيمن على الفضاء السردي حالة من التشظي وتداخل الأزمنة وتجاورها  واعتماد تقنيات الميتافكشن, والتي تمثل في سياق هذا التلاشي المعادل  الموضوعي والنفسي للشخصيات , وفي سياق التماشي مع منظورات ما بعد وفلسفتها التشاؤمية حيال الواقع وازدراء المفاهيم المترشحة عنه ، كمفاهيم مبشرة بالهيمنة والقوة وسيادة الشر.

إن التنوّعات السردية عند الراحل رغم تعبيراتها عن ذلك الشغف في اختبار التقنيات الفنية المُسهمة في تطورات السرد ـ إلا أنها تكشف أيضاً عن ذلك الشغف عند الراحل في إنجاز أعمال سردية تنتمي إلى الروايات والسرديات التي تضع نفسها ضمن تصنيف الروايات السايكولوجية ، وذلك ما تعبر عنه عنوانات دالة في اشتغالات الراحل أحمد خلف كراوية (موت الأب) التي استعارت هذا المفهوم النفسي لبناء سردية تقوم عوالمها على ما يترشح عن هذا المفهوم من عقد ومن تشظّيات وتأزّمات تحيل على الواقع المأزوم الذي أظهر الأب ( أحمد خلف) ارتيابه حوله منذ بواكير أعماله وإلى موته.