حسن العاني.. مواقف ولطائف

ثقافة 2025/01/13
...

  خضير الحميري

تمتد معرفتي غير المباشرة بالأستاذ حسن العاني إلى مطلع الثمانينات عبر زاوية (ضربة جزاء) التي اضطرتني لإضافة جريدة العراق إلى مشترياتي في يوم إصدارها، حيث كانت تحتل "الزاوية" إحدى زوايا صفحتها الأخيرة، تابعتها بحكم القرابة الصحفيَّة بين ما يكتب وما أرسم.. وهي السخرية، ومن المعروف أن عدد الكتاب الذين تعاطوا الكتابة في هذا الحقل الصحفي في العراق معدودون، وغالباً ما كان ينظر للكتابة الساخرة والرسم الساخر بعين الشك والريبة.

تحقيقات بطعم الكاريكاتير

في أحد أيام العام 1989 وحين دخلت القسم الفني لمجلة ألف باء وجدت على مكتبي الفقير تحقيقاً اجتماعياً مرفقاً بورقة صغيرة موجهة إلى القسم الفني موقعة من قبل العاني مكتوب فيها (أرجو أن يُدعم التحقيق برسوم كاريكاتيرية لخضير الحميري).. وكانت هذه الوريقة هي لحظة تعارفنا المباشر لأول مرة والتي لم نفترق بعدها طوال 37 عاماً.

 قادت هذه التجربة فيما بعد إلى تقليد صحفي رسَّخه الراحل وجعله نهجاً ألفبائياً مستمراً بتضمين كل عدد من المجلة تحقيقاً اجتماعياً "كاريكاتيريا" مستنداً في ذلك إلى النجاح الذي تحقق للتجارب الأولى، تعددت فيما بعد أسماء محرري هذه التحقيقات وتعددت ميادينها، أذكر من كتابها فضلاً عن "العاني"، اسماعيل عيسى، عبد الرضا الحميد، عبد الستار البيضاني، عذراء السامرائي، أفراح شوقي، راجحة عبود، ميسلون هادي، وداد الجوراني، ثبات نايف، اليس موشيخ" وآخرين بنسب متفاوتة، لكننا أنا والعاني تشاركنا "حصة الأسد" في أكثر من 50 تحقيقاً مدعماً بالكاريكاتير، نقلنا فعاليته فيما بعد إلى صحف ومجلات عراقيّة كثيرة منها "مجلة الشبكة، ومجلة صوت الآخر، وجريدة الصباح والصباح الجديد والعالم".  

وكانت هذه التحقيقات مخصصة للشأن الاجتماعي والأسري ومكتوبة بلغة أقرب إلى الطرافة "عنوانا ومتنا" على شاكلة "مملكة الأزواج.. صراع خفي على سيادة البيت" و"عروستي أكبر عمراً وأنا موافق" و"الطلاق ..3 غرقى ومركب واحد" و"الفرصة تدق بابك، أم هو طائر الحظ الجميل" و"أوراق سرية وأحكام لا تقبل التمييز". 


"واحد يرفع.. واحد يكبس"

خلال عملنا في التحقيقات "المُكركتة" كنت أشاكسه أحياناً فأرسم بخلاف مسار التحقيق، ومنها قفزت في رأس العاني فكرة لتحرير زاوية بعنوان "واحد يرفع.. واحد يكبس" تنشر في جريدة "العراق" بعد إيقاف "أو توقف" زاويته الأثيرة هناك "ضربة جزاء"، تتمثل الزاوية بنصوص ساخرة يكتبها العاني حول 3 أو 4 مواضيع "رافعا"، ولي أن أرفقها بكاريكاتيرات بذات العدد "كابسا"، الفكرة جميلة ومغرية لكنها محفوفة بالمخاطرة، إذ كانت التعليمات آنذاك تمنع المتعاقد "مثلي" من العمل في مكان آخر، جازفنا ونشرنا الحلقة الأولى ومرت بسلام، وكذلك الثانية وعندما نشرنا الثالثة تبرع أحدهم وأوصل الخبر "مُتبّلا" إلى رئيس تحرير مجلة "ألف باء" الذي أرسل بطلبي غاضباً، وحين سألني عن سبب عملي في جريدة العراق، قلتُ له بأنَّ راتبي في المجلة لا يكفي، سألني وكم يعطونك في جريدة العراق، قلت: ثلاثون ديناراً. قال، حسناً هذه زيادة على مرتبك قدرها 30 ديناراً. وهذا ما حصل.. وحين أخبرت العاني عن الدنانير الثلاثين التي فكّت الشراكة بيننا، قال بسخرية مبطّنة.. ما دام الأمر بهذا القدر من السهولة فبإمكاني أن ارفع أجرك ثلاثين ديناراً أخرى، قلتُ له وكيف ذلك، أجاب ضاحكاً ننشر زاوية مشتركة ثانية.. في جريدة الجمهوريَّة!

لعبة الأسماء المستعارة

كان العاني يستعين بالعديد من الأسماء المستعارة لتذييل كتاباته، أحصيت منها تسعاً، "أيمن حبيب العمر، خالد أحمد العلي، بكر علي عبدالله، عمار خالد العلي، عبد الله العراقي، فاطمة الحسيني، خلود الدايني، حسن خالد العلي، أميمة حسن". وقد استأذنته في إحدى المرات لإزاحة الستار عن تلك الأسرار، فوافق منوهاً بأنّها أكثر مما أحصيت بكثير.. تجدر الإشارة ألى أنه كان يلجأ لهذا الخيار لأكثر من اعتبار.. فمثلا: حين ترفض المجلة أو الجريدة تكرار اسم الصحفي أكثر من مرة في العدد الواحد.. يحضر "أيمن حبيب العمر" أو "حسن خالد العلي" أو "بكر علي عبدالله" لحل المشكلة!

وحين يمنع المطبوع الذي يعمل فيه بموجب عقد ظهور اسمه في مطبوع آخر.. يحضر "عبدالله العراقي" أو "عمار خالد العلي" أو "فاطمة الحسيني" لتسهيل الأمر!

وحين يتطلب التحقيق الذي كتبه خبرة العنصر النسوي مثلا.. تتطوع "خلود الدايني" أو "أميمة حسن" ..وهكذا. 

 وحصل يوماً أن شاركته رسم تحقيق يشير إلى انتظام البطاقة التموينية وسلاسة توزيع مفرداتها، وبعد نشر التحقيق عبّر وزير التجارة عن إعجابه بالموضوع ورغبته بتثمين جهود كاتب التحقيق ورسام الكاريكاتير، وعندما ذهبنا، وقابلنا مدير مكتب الوزير توليت أمر التقديم: أنا خضير الحميري وهنا الأستاذ حسن العاني، فتساءل مدير المكتب مستغرباً: وأين الأستاذ أيمن حبيب العمر (وكان التحقيق يحمل اسمه) فقلت مازحاً، استاذ أيمن مشغول وقد أرسل العاني بديلاً عنه، فقال مدير المكتب.. لا.. حرامات.. السيد الوزير معجب جداً بكتابات أيمن، ويتابعها بشكل دائم، طبعاً لم يتولَّ العاني توضيح الالتباس وفضل أن يلعب دور البديل.. بنجاح.

أما بعد منعه من الكتابة بأمر "رئاسي" عام 1999 باتت تلك الأسماء المستعارة ممنوعة من الكتابة هي الأخرى بحكم افتضاحها في الوسط الصحفي، ولذلك لجأ العاني لكتابة المواضيع والتحقيقات بأسماء زملائه وزميلاته من الصحفيين المقربين "بموافقتهم وبتواطؤ غير معلن من رئيس التحرير" وتلك قصة أخرى من قصص المخاطرة والتضحية النادرة في تاريخ صحافتنا العراقية. 

قلت له يوماً، تعقيباً على لعبة الاسماء المستعارة: أفرض أن باحثاً أراد دراسة تاريخ الصحافة العراقيّة وتوثيق سيرة العاملين فيها، من خلال المقارنة بين أساليبهم، فماذا يعمل وقد وضعته أنت بهذا الموقف الشائك؟ 

ردَّ ضاحكاً: هذه مهمته (لعد ليش سموه باحث!).


الخطوة الأولى في صاحبة الجلالة.. مصحح

دعاني العاني يوماً لمشاركته في دعوة وجهها صديق مشترك، وحين اِلتأم الجمع وجدت نفسي وسط مجموعة من "الشباب" تجاوز أصغرهم السبعين من العمر بسنوات، قلت شباباً لأنّهم ما إن اجتمعوا حتى تخلو عن شعرهم الأبيض وثقل السنين وبدأوا يستذكرون عملهم معا كمصححين في بواكير الشباب قبل نصف قرن في إحدى الصحف اليوميّة، كانوا يتقافزون ضحكا وهم يستذكرون الأخطاء المعدودة التي كانت تفلت من بين عيونهم بسبب التعب والعمل لساعات متأخرة من الليل، والعقوبة التي تطالهم بسببها في اليوم التالي، كنت مجرد شاهد عيان على الفعل السحري لآلة الزمن. 

بعد أن انفض الجمع سألته عن تلك المرحلة فأجابني بإيجاز: إنه الدرس البليغ الذي تعلّمته من الصحافة، وأظن أن أغلب الكتاب الجيدين أسهم عملهم في أقسام التصحيح في تصحيح مسارهم الإبداعي. 


هل كتب العاني مذكراته؟

كنّا نتحدّث عن سيل كتب المذكرات التي غزت المكتبات ومدى جاذبيتها للقرّاء، حصل هذا بعد أن أخبرته عن انطباعاتي الإيجابيّة حول مذكرات الصحفي ليث الحمداني "أوراق من ذاكرة عراقيّة" وما ذكره فيها من أحداث ومواقف شيقة، وذكريات الصحفي الرائد محسن حسين وذاكرته المتوقدة في "ذكريات صحفية" و"من أوراق صحفي عراقي" وعندها سألته هل فكرت بكتابة مذكراتك؟ قال ذكرياتي وأسرار حياتي مبثوثة بشكل أو بآخر في قصصي ورواياتي ومقالاتي أيضاً، وقد أعددت بعض المقالات لتصدر في كتب مستقلة، قلتُ له إن ما حصل معك في حادثة المنع من الكتابة وتداعياتها من عام 1999 لغاية 2003 تستحق أن تدوّن كجزءٍ من تاريخ الصحافة العراقيّة، وكان قد حدثني عن الكثير من اللقاءات والحوارات والتوسطات والمخاوف والمخاطر والوشايات التي تخللت تلك الفترة، فيها من الاسرار المؤلمة والطريفة معاً ما يستحق أن يدوّن في كتاب مستقل، أجابني بطريقة مبهمة بأنه كتب حول ذلك كثيراً بهدف الشفاء لا التشفّي، ثم أضاف ولكن فكرة تدوينها في كتاب مستقل تستحق التأمل، ثم أخبرني بأنّه يعكف على كتابة رواية تتضمن الكثير من ذكريات واسرار الطفولة "كان هذا في عام 2020". 

مغامرات صحفيَّة

بعد نيسان 2003 وبدعوة من الصحفي الرائد محسن حسين انتظمنا في لقاءات شهريَّة للتباحث في أمر اصدار مجلة على شاكلة مجلة "ألف باء"، كنّا مجموعة من الألفبائيين العاطلين عن العمل؛ "محسن حسين، حسن العاني، قحطان جاسم، عبد الرسول حسين، سلام الشمّاع وخضير الحميري" وفي حزيران من ذلك العام تمكنا من إصدار العدد الأول من مجلة (إن) الاسبوعيّة، بعد أن تعهّد أحد أصدقاء المجموعة السيد "عبد الإله الجلبي" بتمويل المجلة التي استمرت في الصدور أسبوعياً لخمسة أشهر، قبل أن يعود الممول ويعتذر عن الاستمرار لصعوبة التوزيع بسبب الظروف المعروفة وشحّ الاعلانات التي راهنا عليها كثيراً، ولكن المجموعة استمرت في لقاءاتها الشهريّة لتعاود اصدار مجلة (الآن) بممول آخر وبعد توقفها السريع أصدرنا مجلة (الصيد) الشهريّة لحساب نادي الصيد والتي استمرت في الصدور لعدة أشهر. 

أذكر أنَّ الصحفي محسن حسين وهو العقل المدبّر لتلك المغامرات الصحفيّة الجميلة فاتح العاني لشغل رئاسة تحرير المجلة حينها إلا أنَّ العاني اعتذر عن المهمة متعللا بحساسيته المفرطة من أي شيء يربطه.. بالرئاسة! 


حصل في العهد الملكي!

هذه العبارة وعبارات تمويهيّة أخرى على شاكلتها مثل "في منتصف الخمسينيات" أو "في أواخر الاربعينيات" كان العاني يلجأ اليها حين يرغب بغمز حالة معينة أو سلوك لمسؤول معين، ولكنه يخشى المحاسبة، لحساسيّة الحالة وخطورة المسؤول، فتصبح مثلا "أن مسؤولا في العهد الملكي استغل سلطته وحاشيته وغياب عين الرقابة فأثرى على حساب الوظيفة العامة" أو "في منتصف الخمسينيات كان أحد مدراء التربية يتدخل شخصياً لرفع معدلات بعض الطلاب من أبناء المتنفذين لقاء المحافظة على منصبه" وهكذا.

الحيلة قد تنطلي على بعض القرّاء وربما أكثرهم، ولكن لا أظنها تنطلي على المسؤول المعني، إلا أنه لا يستطيع أن يعترض ويضع نفسه في موقع الفضيحة، فيبلع الرسالة وأمره لله..

تكرر هذا التمويه الطريف في الأعمدة التي كتبها العاني في الثمانينات والتسعينيات، وفي أحد الأيام أخبرني بأن حكاية "العهد الملكي" باتت مفضوحة، وقد وصلتني إشارة مبطنة حول ذلك، قلت له: وماذا ستفعل..

قال متهكّما: سأتحول إلى العهد العثماني!


من هواة جمع الصداقات

من الهوايات التي لا يمل منها الصديق العاني هي استذكاره لأصدقائه، من الكتاب والصحفيين والمصورين والتشكيليين والاذاعيين والناس البسطاء، و"موبايله" ذو الطراز القديم "طابوكة" يضم قائمة طويلة جداً من الأصدقاء الذين يتواصل ويتزاور معهم بين فترة وأخرى، تدعمها قائمة أخرى مكتوبة بخط اليد للاحتياط.. كنتُ أحسده على هذه الهواية وأنا أرى ثمارها الوفية ترحيباً أينما تجولنا، هذا جاري القديم، وهذا بواب الجريدة الفلانيّة، وهذا صديق أعرفه من السبعينات، وهذا صديقي من أيام قسم التصحيح، وهذا صديق من أيام العمل في الإذاعة، وهذه المنظفة في المجلة، وهذا دعمته في خطواته الأولى بعالم الصحافة، وهذا بائع الصحف الذي يحفظ لي ما أكتب أو يُكتب عني.. وتطول القائمة. 

في الفترة الأخيرة أسرّني بأنّه بدأ يفقد الشغف في كتابة العمود الصحفي، فلا يوجد من يقرأ..

ويفقد الاهتمام بمتابعة الأخبار أو الحوارات السياسيَّة، فلا شيء يتغيّر.. ولكنّه لم يفقد العناية بحديقة الأصدقاء، كان يتفقد ورودها ويسقيها بلا كلل.