باول تسيلان: ساعة الأمس

ثقافة 2025/01/13
...

  تقديم وترجمة: حسين وئام

ليس من الغريب أن يصعب فهم القرّاء لنصوصِ تسيلان، فما وجد في مكتبتنا العربيّة ليس سوى القليل من الترجمات، وهي إما غير موفقة – وأعني بهذا، عدم مواكبتها لمفردةِ تسيلان الشعرية المعبّأة بمختلفِ التنويعات، وإما ترجمات متناثرة من قبلِ مهتمين وهواة لم تحافظ على التسلسلِ الشعريِّ لمجاميع تسيلان والذي كان حريصاً بدورهِ على وضع لمسةٍ متفردةٍ في كل مجموعةٍ. وفي الحالتينَ ما حدث لم يجدِ نفعاً لا للقارئ ولا حتى للمترجم، تسيلان شاعرٌ محوريٌّ في الأدب الألماني، ولا أبالغ إن قلت إنه الأهمُّ في الشعر الألمانيِّ بعد ريلكه.

اشتهر تسيلان كشاعرٍ يهوديٍّ مضطهدٍ ينتمي إلى الهوية الألمانيّة، ولكن ما يخفى على الكثيرين أنّه كتب الشعر باللغةِ الرومانيّةِ في نهايةِ الأربعينياتِ من القرن الماضي. وصحيحٌ أنه لم يطبعها كمجموعةٍ، وبالرغمِ من ذلك نشر العديد منها في المجلاتِ الرومانيةِ آنذاك. وفي حال اضطررنا إلى وضعِ ترتيبٍ زمنيٍّ لمجاميع تسيلان الشعريّة، يمكننا القولُ بأنَّ العمل الأول المعنون بـ "القصائد الرومانية" على صدارةِ القائمة، وهو العملُ الذي سبق مجموعة خشخاش وذاكرة، "أول عمل كتبه باللغة الألمانية".

هل نحنُ أمام شاعرٍ يحمل في ذاكرتهِ الشعريّةِ ضياعاً في بيتِ اللغة؟ ألم يقل مارتن هايدغر، الفيلسوف الذي أُغرِم كثيراً بقصائدِ تسيلان، بأنَّ اللغةَ بيتُ الوجود؟ إذن، في أيِّ غرفةٍ يقطنُ تسيلان بالتحديد؟.

تسيلان من الكُتاب الذين أحسنوا التجوال في هذا البيتِ الشاسعِ، ويشبهُ إلى حد كبير الطفل الذي يلعبُ في كلِّ غرفِ البيتِ، ويلهو في كل زواياهُ تاركاً وراءهُ أثراً خاصّاً. وما يُميّزهُ أكثر أنَّ لَعِبهُ مُتقنٌ.

ومحاولةُ دخولنا في تأويليّةِ نصّ تسيلان ستكون وعرةً، ولن نجد سرديةً تليقُ بهذا النوعِ من التأويليّاتِ كما التأويلِ الذي كتبهُ الفيلسوفُ غاداميرَ، المعنونِ بـ "مَن أنا ومَن أنت؟"، الكتابُ الأهمُّ الذي تناول مجموعةً كاملةً من قصائدِ تسيلانَ بشكلٍ تأويليٍّ غيرِ آبهٍ بمتاهةِ الانهيارِ أمام نصّ هذا الشاعرِ اليهودي، العصِيِّ على الفهم.

لقد كان تسيلان مُحاطاً باليهود الرومانيين في بوخارست فضلا عن تأثره الواضح بالتوجه السريالي الجديد، وأدّى به هذا الاختلاط إلى كتابةِ هذه النصوصِ. وأقولُ بعيداً عنْ أيِّ اعتبارٍ، كانتْ هذه الحالةُ التي اعترتْ تسيلانَ مؤديةً بهِ إلى الزعزعةِ والإحساسِ بالتيهِ اللغويِّ، وبالمحصّلةِ أغنتْهُ هذه التجربةُ وأعادتْ في تشكيلهِ لغويّاً.

غير معتادٍ، غرائبيٌّ، نادرٌ. هكذا وصفت الناقدة "باربرا ويدمان" الشكل الشعريَّ الذي كتب بهِ تسيلان خلال سنواتِ بوخارست. وبسبب اهتمامي الدقيق بالتشكّل اللغويِّ لشعريّةِ تسيلان، انطلقتُ من مبدأ ترجمة البدايات، التي ستؤدّي إلى فهمٍ أوسع لنصوصِ تسيلان. وبالعموم، هذا ليس سوى بدايةٍ، ومحاولةٍ لإعادة ولادة تسيلان في القرن الواحد والعشرين وإحياءٍ متفرد للرواسب.

وقريباً سيكونُ بين أيديكم مجموعُ القصائد الرومانيّة بترجمتي، تليها مجموعةُ خشخاش وذاكرة، بشكلٍ جديدٍ سيكونُ لائقاً بمفاهيمِ تسيلان الشعريّةِ، وانزياحاتهِ اللغويّةِ وأرخبيلاتِهِ التي لا تنتهي.


البارحة

مِن الأشجارِ التي نبتت في الغسقِ

داخل غُرفنا المُسْتَعِرة 

سنلتقط وبأناةٍ

اليَمامَ الزجاجيَّة،  

والأوراقَ التي لا تكفُّ عن الحفيفِ،

ستنمو من أكتافنا وأذرعنا،

وليسَ للريحِ مِن مَهبًّ.

ولن يكون هناك سوى بركةٍ من الظلالِ، لن تجدي فيها جذراً.

بحيرةٌ مُتجمدةٌ،

حيث يتصارع المغمورون على تاج حَراشفهم

بينما الحياةُ، قَارِبٌ على ساحلٍ، خَذِلتهُ المَجَاذِيف.

صوتٌ سيغدو، نحونا مِن اللَهَبِ،

ليضرّجَ فضتهُ بالدمِ

 مُعلناً، وِمن مكانهِ الكامنِ في النارِ:

لستُ أنا بل هم وحدهم يدركونَ متى تقومُ الساعةُ!

حينها سيأتونَ مُوفَدِينَ مِن الصحراءِ ليَفيضوا برمالهمْ عليك:

لتكن هناك جبالٌ حولك، فنحن لن نترك وادي القلق الكئيب.

ومجدداً، مرةً بعد أُخرى، سنجني اليمامَ الزجاجيّة على مهلٍ

وعندما تنفجّر في الهواءِ، ستُكَلّمني بهذيانٍ.


ليلة رأس السنة 

في ليلةِ رأس السنة، فصلٌ بِلا ساعاتٍ. 

أرسلتَ نَعشاً غريراً لتطلبَ يد حبيبتكَ: نحوها

سالتَ الدموعُ المُلتهبةُ خارِجَ المرايا

مِن مِشعلٍ أغرقتهُ ثلوجُ الأسى، لتينعَ من رأسها.

خاتمٌ انطفأ في كوبٍ زُجاجيَّ

عرَّجَ إلى النافذة مُراقباً لها، 

وهيَّ تأتي ماشيةً عبر الثلوجِ بجدائلها النائمةِ؛ 

تنطلق الايدي المُحررةُ، مُنتظرةً لاستقبالها عند البابِ

وأما الشعراءُ، فاجتمعوا لأداء رقصة الفالسِ

في الطابقِ العلويَّ.

بينما هيَ

تخطت العتبةَ، مُقاومةً جفناً،

لترى صدرها الذي استفاقَ بنعومةٍ.

نردٌ لهُ أعيُنٌ وقعَ على الأرضية المُبلّطةِ،

بعيونٍ مشمشيّةٍ، ليُقيمَ بُرج القلعةِ الخشبي، 

مُغادرًا مع ظلهِ.


عُميان بفعلِ وثبةٍ هائلة

عُميان بفعلِ وثباتٍ هائلةٍ،

إلتقينا، هيْامون بين السراب، 

في قُبلةِ إعلانِ التخلي، المتوحّدةِ.

الساعةُ هيَ ساعةُ الأمسِ، ولكنها تَبرُزُ عَبر يدٍ ثالثةٍ. 

مُتَّقِدةً، مُتَوهِّجةً،

يَدٌ لَمْ ألْتَقِ بها فِي حدَائِقِ الأزمنةِ.

عقربا ساعة آخرانِ ملتفَّانِ حول نفسيهما عُقداً

في أقصى جنوبِها.

وحين تُحَّلُ عُقد العقاربِ

سيكونُ الوقتُ قد تأخّرَ، والزمنُ قد تغيّرَ،

ستدورُ اليد الغريبة بطيشٍ 

حتى تلتهب كُلّ الساعات الأُخَرِ

بنارٍ مُعدية.

وستصهرها جميعاً 

في وِحدةٍ واحدةٍ والتي في الوقتِ ذاتهِ

ستكون الساعةُ، الموسمُ، والخطوات الأربعُ والعشرون 

خائضاً فيها عند لحظةِ موتي

ثم سيقفزُ عبر الزجاجِ المتصدّع ِ

إلى وسطِ الغرفةِ.

مُستدعياً لي 

أن أتبعه لأُصبحَ رفيقهُ 

في ساعةٍ جديدةٍ 

تَقيسُ زمناً أعظمُ بكثير.

عنديَّ، أُحبذُ أن يُقاس الوقت بالساعةِ الرمليَّة، 

ليكونَ الزمنُ أقلّ ارتفاعاً، كظل شعركِ على الرمالِ

وسأنقشُ حدوده بالدمِ، مُدركاً أن ليلة كاملة

قد انقضت.

نعم، أنا أُفضلُ الساعةَ الرمليَّةَ 

لتكسَّريها عندما أُنبئُكِ بكذبةِ الخلود

أُفضلها بالذاتِ كما تفضلينَ شعري 

المُتلألئ بأنوارٍ كما ثعابين حائرةٍ.

أُفضل الساعة الرمليَّة 

لتمكُني مِن كسرها بسهولةٍ

بعكازة الأسى.

ليجعل جناحاً عظيماً ولد في الخريف مُتريثاً

مع النسيمِ يتغيّر لونه أثناء نومي.

بجواركِ.