حسب الله يحيى
كنت على خلاف دائم مع أبي، يصل حدَّ الخصومة، لكن أبي على غير المألوف في هكذا حالات، كان يحتمل خلافي ويحترم حتى خصومتي معه.
كان يراهن على المستقبل، وكان يقول:
ـ ستتعلم بمرور الزمن.
ولم أكن أعلم أن أبي، كان يمتحن صبري، ففي الصبر حكمة.. وأنه قد تعلم بالتجربة عواقب الأيام، وأن كل ما هو خفي، لا بدَّ أن تظهر حقيقته وتتبين طبيعته.
كنت في تحدٍّ دائم معه، ولم يكن يكرهني أو يلزمني على قبول رأيه أبداً، وإنما كان يؤكد لي:
ـ ستتعلم بمرور الزمن.
ومضى زمن لم يبرهن لي أبي على صحة آرائه في هذه المسألة، أو في هذه الشخصية، أو هذا الحدث.
لكنه الزمني ذات مرة على إزالة تل من الرمال والتراب وبقايا بناء كانت تتجمع أمام بيتنا.
قلت له:
ـ يا أبي هذا التل من التراب لا يضر بنا ولا علاقة لنا به.
ـ أنا أريد إزالته..
ـ لماذا؟
ـ سكت أبي قليلاً، ثم قال:
ـ أتذكر كومة الحجارة القريبة منا، كيف تحولت إلى (مزار) اطلق عليه "الشيخ فتاح" وقد أعطاه أحد سكان الحي صفة قدسية وراح ينتشر أمره بين الناس وبات يعرف على أنه مرقد رجل صالح، وأنه من أولياء الله الصالحين، وأنه صاحب كرامات ومن كراماته انجاب المرأة العاقر والتي تقدم له الأضاحي والمكافأة حتى تحمل في السنة الأولى لزيارته!
عجبت لأمر أبي فسألته:
ـ وهل تشك بكرامات الشيخ فتاح؟
ضحك أبي وقال:
ـ لا أشك، بل أؤكد لك أن الأمر لا يخرج عن إطار الكذب والتأثير في الجهلاء من الناس.
ـ أبي.. ألم تصبح جارتنا حاملاً بعد زيارتها للشيخ فتاح بعد انتظار دام خمس سنوات؟
ـ لا.. بل عرف الطب سبب الخلل، وقد عولجت طبياً ثم حملت.
ـ وجارتنا الأخرى أم غائب؟
ـ حملت عن طريق الأنابيب الطبيَّة.
عدت اسأله:
ـ وهل تشك في مرقد "الشيخ فتاح" وأنه كان قد حفر بئراً عندما مد يديه داعياً ربّه؟
ـ ابتسم أبي وقال:
ـ المكان كان مقبرة.. حفروا لحدا لأحد الموتى، وتبين أن المكان كان بئراً عميقة غمرها التراب والحجارة.
ـ وما دليلك يا أبي؟
ـ أنا شاهد عيان، وكذلك معلّم العربيّة في مدرستنا القديمة.. نحن من تبقّى من الأحياء كنا شهود عيان.
حرَّك أبي شيئاً في ذاكرتي، جعلني أشك في معلوماتي والتمس الحقيقة في معلوماته، لذلك بادرت وعملت على إزالة تلة التراب التي أمرني بإزالتها وعلى حدِّ قول أبي.. لئلا يعدها أحد على أنّها قبر لأخت الشيخ فتاح ليكون فرعاً من المزار الأصلي.. بعد أن تتمكن النفوس الميتة من اقناع أهل الحي بالفرع الجديد!
بقيت بين الشك واليقين، حول الآراء التي يؤمن بها أبي وبثقة عالية لا تقبل الاختلاف بشأنها.
وهذه المرة كانت المحنة مع القائم على أمور (المزار) صاحب الوجاهة والرفعة في الحي وكذلك المؤذن في المزار والذي كان يثير الشبهات بسبب اختياره مؤذنا في وقت كان يعاني من إشكال في حنجرته وفي القائه حتى عده الجميع على أنه رجل اخرس وكان اهل الحي يقدمون له المأكل والملبس من بيوتهم لمساعدته على البقاء والسكن في (المزار) نفسه.
كان هذا المؤذن الاخرس اسمه لا ينطبق أبدا على حاله ولا على مهمته، كان يسمى (منادي).. وبوجوده وصوته الغريب تحول (المزار) إلى مسجد يأوي اليه كثرة من المصلّين ليؤدوا الصلاة فيه ويتباركوا بكرامات الشيخ فتاح وصوت (منادي) ومع أن كلمات الاذان لم تكن واضحة في صوته إلا أن الجميع وافقوا على أن يكون مؤذنا رأفة به ومحبة لهدوئه مع علمهم جميعا أن صوته لا يناسب المقام، ذلك أن حاله كان بمشيئة الله وليس له خيار فيه لذلك اطمأنوا إلى أذانه والرأفة به.
واتفق المقيم على (المزار) و (منادي) فكانا يجمعان ما تيسر من عطايا وهبات يقدمها سكان الحي للمزار ولمنادي معا، وذلك لكسب رضا الله.. وغدا جمع المال والاضحيات وافرا مما جعل المقيم ومنادي يستأجران بيتاً خصص لسكن (منادي) وجمع الأغنام والأبقار عنده.
ويصادف أن يوفق الله الزوار حيث تلد امرأة أو تتحقق أمنية في تعيين وظيفي أو تجارة رابحة أو غائب يعود أو مريض يشفى من مرضه.. حتى يقال إن مزار الشيخ فتاح كانت له أسبابه وكراماته من كل ما تحقق.
بقي هذا الحال سنوات طويلة من دون أن يبادر أحد في تغيير الحال والأحوال والقناعات، فيما كان المقيم على المزار وأخته (الفرع الثاني) من الرموز التي يعتز بها سكان الحي ويزورونها تبركاً بها.
لكن مشهداً راه احد الشباب بأم عينيه، حيث كان يستظل بشجرة زيتون قديمة مغروسة في زاوية خارجية من (المزار) .
كان الشاب يراجع دروسه وفجأة رأى رجلا وامرأة يدخلان إلى (المزار) ثم يخرجان منه بعد وقت قصير وهما في حالة من النشوة والسرور.
لم يصدق أحد بما قاله هذا الطالب.. لكن زميلا له رأى مشهدا مماثلا في اليوم التالي، وفي يوم آخر كان هناك شاهد ثالث أكد ما ذهب اليه زميليه، وتطابقت الآراء وتضاعفت الرؤى واختلفت الأوقات ليلا وظهرا.. وكان المنظر يزداد يقينا وادراكا، حتى قرر نخبة من سكان الحي على التعامل مع ما شاهدوه من خلوة وقرروا تقديم شكوى الى المسؤولين، إلا أن رجلا من الحي أوضح لهم قائلا:
ـ بعيني.. بعيني التي يأكلها الدود، رأيت (فلان الفلاني) والذي يعمل حارسا ليليا ويعنى بسلامة أمن الناس، يدخل بصحبة امرأة ثم يخرجان معا ويسلم أوراقا نقدية إلى المقيم وإلى المنادي!
فكر عقلاء الحي في إيجاد حل لهذه الفضيحة وانتشارها في حيهم وقرروا تقديم شكوى لمواجهة هذا الفساد لكن احد الحضور وأد الشكوى.. قائلا:
ـ نخشى أن تتحول الشكوى ضدنا ونتهم اننا نسيء إلى (المزار) وإلى (منادي) وإلى أهل الحي خاصة وأنهما عرفا بأنهما أصحاب سيرة حسنة ولم ينسب اليهما من قبل شيء مسيء أو منكر أو من عمل الشيطان.
سكت الجميع وارتضوا بالصمت.. ذلك أن الصمت مرهون بالسلامة والسلامة تفضي إلى الأمان وتقتضي من كل واحد منا.. أن لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم وحتى لا يشم أو يلمس شيئا.. ففقدان الحواس أهم من البوح.. هكذا اقتنع الجميع!
وعندما ساد الصمت وخيم على سكان الحي اغتنى المقيم وصار له سكن وبات مقامه أغنى وأعلى.. فيما زاد زوار الشيخ فتاح الذي فتح لهم أبواب المواليد الجدد وحقق لهم السعادة على سعتها!