د. عبد العظيم السلطاني
"النصوص هي النصوص"، هذا ما يطالعك به رهط من الناس يشتغلون في النقد أو يتحدثون فيه، كي يوحوا لك بشيء يريدونه لأنفسهم. وبقولهم هذا إنما يدفعونك إلى استنتاج فكرة أخرى مبنية على هذه. هم يريدون منك أن تسلم لهم بأن "النقد هو النقد"، ويحق للجميع أن يجوبوا في كل أصقاع النصوص ناقدين!. في حين الأمر ليس كذلك، فلا النصوص هي النصوص بمطلق اللفظ، ولا النقد هو النقد بمطلق اللفظ.
نصوص الأدب نسجٌ من الخيال وصنعة من لغة، أو قلْ تطريزٌ باللغة ومن خلالها. والكلمة في الأدب مقصودة لذاتها، والجملة منسوجة لغايات أوّلها إنتاج الجمال وإثارة القارئ؛ لذا التفنن في الصياغة والخلق الفني سرُّ الأدب.
والتفنّن وإنتاج الجمال يتحقق في أدق التفاصيل، صعوداً إلى العلو في المكامن. فانتقاء المفردات بعناية ينتج جمالا، والتقديم أو التأخير في بعض كلمات الجملة بذوق ودقة يُنتج جمالا، وارتكاس فاعل تحت سطوة المبني للمجهول قد ينتج عنه جمالا.. حتى العناية بالعلامات الإعرابيَّة في النص الأدبي معبّرة عن خصوصيته، ومرتبطة بالدقة الدلاليَّة وبقدرة علامة إعرابيَّة على قلب معنى جملة وتغيير المسار الدلالي، فعلامة الفتحة على ضآلة شأنها قد تقلب معنى الجملة، فيصبح معها الاسم وقد وقع عليه الفعل، ولو غابت الفتحة عن نهاية الاسم هذا لربما اِلتبس المعنى وبقي رهن التخمين، فقد يكون فاعلا لا مفعولا به. وكلّ علامات الإعراب إنّما هي دلالات على المعاني وليست زخارف نضعها على الكلمات للزينة، ومعرفتها وضبطها ليس ترفاً، إنّما ضرورة ترتبط بضبط المعنى.
وفي الإملاء الدلالي الأمر كذلك، فمن لم يُدرك الفرق بين (يعظ) و (يعض)، لا يمكنه نقد نص أدبي، فقد يترك الموعظة ويذهب إلى العض بالأسنان. ومن لا يدرك الفرق بين (الحضر) و (الحظر) قد يترك معنى الحضور ويذهب إلى معنى المنع.
وفي عدم إدراك البلاغة وأساليب القول العربي سيُعسّر إدراك المعاني بدقة وتدبّر. وقِسْ على مثل هذا الجهل في هذه العلوم الخاصة بالعربيَّة. ستجد من يجهلها قد فقد القدرة على تحسّس خصوصيَّة اللغة وإدراك دقائق المعاني. ونقد النص الأدبي أساساً يبدأ من فهم لغة النص، ثم التدرّج لإدراك أسرار الجمال في النص اللغوي من خلال اللغةّ. فكيف، إذن، يمكن تصوّر وجود ناقد للأدب وهو بكل هذا الفقدان؟! لا شكّ أنّه سيكون عاجزاً عن الفهم السليم وهو يقرأ الأدب.
ولعنة الفقدان تطارده حين يبدأ بكتابة نقد للأدب كي يقدّمه للقرّاء. فمن لا يعي أصول اشتقاق المفردات في العربيّة سيمنح نفسه فرصة اشتقاق مفردات ما أنزل بها الاشتقاق العربي من سلطان. وهو بهذا فضلاً عن إساءته للغة العربيّة فقد جاء بكلمات لا يشترك بدلالتها مع القارئ، الذي يبقى في عالم من التخمين الدلالي. قد ينجح في تخمينه وقد يشت به الدرب. ولا لوم عليه فهو ليس سوى مخمّن تصوّر أنّ الناقد يقصد بها كذا، وهي كيت..
ثمّ يأتيك الأسلوب وهذا بعض الضيم والبلاء على القارئ. فهذا "الناقد" غير متشرّب بأساليب العربيّة وغير عارف بأصول صياغة الكلام، فتأتي جمله ملتوية غير مفهومه، ومتراكبة على بعضها غير منتظمة بنسق دلالي. وهنا سيكون القارئ المُبتلى مضطراً إلى التخمين ثانية، بأنّ الناقد يقصد كذا بهذه الجملة، وهناك يقصد كذا. وقد يفلح أو يخفق في تخمينه. ولا لوم عليه، فهو قارئٌ لنص انعدمت فيه المشتركات الدلاليّة مع الكاتب.
باختصار مثل هؤلاء "النقاد" لا يصلحون لكتابة نصّ في نقد الأدب، وهم في الأساس لا يصلحون لقراءة الأدب، فهم لا يميّزون بين النص الأدبي وأي نص آخر، في التاريخ أو الفلسفة، أو حتى في النصوص التي يكتبها المحققون في مراكز الشرطة حين يصفون الحوادث.
وقد لفت انتباهي أنّ من يسوّقون لفكرة التخلّي عن خصوصيّة الأدب والنقد المتعلّق به، ويثرثرون هنا وهنالك لإشاعة فكرة أنّ النصوص هي النصوص وأنّ ما بعد الحداثة تدعو إلى مطلق النص؛ هم أنفسهم الذين لا يحسنون اللغة ولم يتقنوا قواعدها، وليس لديهم القدرة على تحسس مواضع الارتقاء أو الانحدار في النسج والصياغة. وهم أنفسهم الذين يدعون إلى أن "النقد هو النقد"، وهو كلام حق أريد به باطل.
نعم، نريد للنقد الحديث أن يكون آلة ضخمة قادرة على فهم النصوص وتحليلها بمهارة، وبذا يمكنه تحليل النص الأدبي مثلما يمكنه تحليل نصوص غير أدبيّة حين يكون متمكّنا من مضامينها ولديه اطلاع يؤهله، كالنصوص الفلسفيّة، مثلا. لكن النصوص الأدبيّة تبقى عصيّة على غير العارف بأصول النصوص الأدبيّة ومسالك اللغة ودقائق التعبير، وخصائص الأجناس وخصوصيّة المناهج وأصول التحليل. فهي بحاجة إلى ناقد أدب بكل ما تعنيه الكلمة وما تحيل عليه من شروط معلومة.
ويترتب على هذا الخلط المقصود خلط آخر في سلسلة التشويه، بأن سيكون نقد نقد الأدب هو الآخر لا شيء يميّزه عن أي نقد نقد آخر في التاريخ أو الفلسفة وما سوى ذلك. وسيفتح الباب لأي ناقد ومن أي تخصص أن يتصدى لينقد نقد الأدب!
هؤلاء يسرّهم كثيراً أن يختلط الحابل بالنابل! كي يُغطى على جهلهم باللغة، وجهلهم بالأدب وفنونه، وجهلهم بنقد الأدب وبنقد نقده. وهم بهذا يستثمرون اطلاعهم الثقافي ليغشّوا الناس ويغشّوا الحياة الأدبيّة والثقافيّة. وإن كانوا مثقّفين حقاً فليعلموا أنّ هذه بعض خيانات المثقف.