مواقف جان بول سارتر.. تاريخ فلسفة

ثقافة 2025/01/15
...

  تقديم وترجمة: كامل عويد العامري

فــي 07 -11- 2024 أعادت دار غاليمارGallimard الفرنسية مؤخراً إصدار مجلد (مواقف) التاسع لجان بول سارتر، الذي صدر بين يناير/ كانون الثاني 1970 - ويوليو/ تموز 1975"، بطبعة جديدة منقَّحة وموسعة، حرَّرها جورج بارير، وموريسيت بيرن، وفرانسوا نودلمان وآني سورناغا.

عندما نُشرت لأول مرة، عام 1976، قُدمت النصوص المجمَّعة في هذه الطبعة الجديدة من المجلد الأخير من الـ (مواقف) بعنوان فرعي "السياسة والسيرة الذاتية"، والذي يحدِّد بوضوح بُعدها المزدوج.

في الواقع، كان سارتر مخلصاً لأفكار مايو 68؛ فهو يظهر اهتماماً بما يحدث في فرنسا وخارج حدودها، ويتبنَّى قضية المظلومين والثوار. باسم "النجدة الحمراء"Red Aid، كان يدافع عن جميع أولئك الذين يحاكمون أو يسجنون، فهم ضحايا العدالة بناءً على طلب من هم في السلطة؛ وكان يقف بشكل خاص إلى جانب الماويين، يحلِّل أفكارهم وأساليب عملهم بتعاطف واضح. إن كتابة هذه النصوص كانت ذات طابع نضالي، غالباً ما كانت ساخرة وعنيفة في بعض الأحيان، ولكنها كانت تستند دائماً إلى توثيق دقيق ومفصل.

إن نبرة "السيرة الذاتية" تختلف اختلافاً كبيراً: لم يعد سارتر وحيداً فيها، فبعد فقدانه بصره، لم يعد يكتب، بل يتحدث. في الواقع، أتاح له محاورون مقرَّبون مثل سيمون دي بوفوار وميشيل كونتان تقييم وضعه وتوضيح فكره. وفي هذا الصدد، كانت المقابلة التي أجراها مع كونتان مهمة للغاية، فهي لا تخلو من إيحاءات مدهشة حول علاقة سارتر بالمال، أو اعترافاته بالتقصير تجاه الاتحاد السوفييتي أو برؤى واضحة: لقد كتب سارتر وصيته. كان الانفعال حاضراً بشكل واضح، من دون أي مبالغة في الحزن: كانت بالفعل "مراسم وداع"، ولكنها اختتمت بضحكة عالية.

بين مايو/ أيار 1958 إلى أكتوبر/ تشرين الأول 1964، كان سارتر حاضراً على جميع الجبهات. ومنذ المجلد الأول من "مواقف"، عرف بأنه صديق مقرَّب ونبيه للكتّاب والفنانين: ألبرت كامو، وبول نيزان، وأندريه ماسون، وميرلو- بونتي، وأندريه تاركوفسكي... وقد جاء رفضه لجائزة نوبل للآداب والنبرة الجدلية التي منحها لهذا الحدث لتضع حدّاً لهذه الصفحات المكرّسة للأدب والفنون. ومما لا جدال فيه أن النضال السياسي هو الذي احتل المكانة الأولى فيها، وخلفيته في هذا النضال هي الصراع الجزائري، فضلاً عن صراعات العالم الثالث على نحوٍ عام، حيث تظهر شخصيات كاريكاتورية، وشخصيات أخرى يعتبرها سارتر أكثر ضرراً وخطورة على الديمقراطية والجمهورية، وشخصيات أخرى يراها حاملة للأمل أو بطولية حقاً. في هذا النضال السياسي، استخدم سارتر كل الوسائل المتاحة: فهو بارع في السجال، ومبدع في الأخلاق، حتى وصل العنف في كتاباته إلى حدِّ الصراخ، ويبدو أنه يحمل الكاتب إلى ما هو أبعد من رباطة جأشه.

هذا المجلد الذي يحمل عنوان "المواقف IX" يجمع نصوصاً تمتد بين السنوات 1970 و1975، سنوات لم يكن فيها سارتر قادراً على الكتابة بالمعنى الأدبي، المعنى الذي كان دائماً متمسكاً به. لذلك، يتضمن هذا المجلد مقابلات طويلة نُشرت كما هي، فضلاً عن مداخلات، غالباً ما كانت شفوية أيضاً، تهدف إلى دعم ورثة حركة مايو/ أيار 68 الذين واجهوا السلطة الديغولية، حتى لو كان ذلك من خلال تحمل المسؤولية القانونية عن صحيفة عرفت بتوجهها الـ ماوي. هل كان ذلك معقولاً من جانبه؟

من لم يعش بشكل مباشر أشد فترات الحرب الباردة حرارة، قد يفهم لماذا شعر سارتر، شأنه شأن جزء كبير من اليسار في ذلك الوقت، بأنه أقرب إلى الشيوعيين منه إلى الأمريكان في عهد مكارثي وقضية روزنبرغ. فبين معسكرين متصارعين، كلاهما عازم على تقاسم العالم، من المفهوم أن يختار سارتر، من وجهة نظر بعيدة، ما بدا له أهون الشرين، حتى وإن كان على علم بطبيعة الستالينية: فقد دعم في عام 1948 نشر كتاب ديفيد روسيه المعنون “عالم معسكرات الاعتقال" السوفييتي: الذي يدين فيه النظام وتلك المعسكرات على حدٍّ سواء ويسعى فيه جاهداً إلى فهم "انهيار القيم الإنسانية الأعمق والأكثر واقعية " وظهور مجتمع المعسكر بأبعاده السياسية والاقتصادية والأخلاقية، فهو مثلاً، إي روسيه، يواجه على نحو مباشر "مسألة السلطة والاختيار"ــ من ينبغي إنقاذه، وبأي ثمن؟ – من دون أن يخفي السبب الذي أدى إلى مقتل رفاقه التروتسكيين “على يد منظمة بوخنفالد الشيوعية".  فضلاً عن تحليله لنظام معسكرات الاعتقال النازية، ولا يعرّف هذا النظام على حدِّ تعبير فرانسوا ماسبيرو "باعتباره انحرافاً وحشياً بسبب عواقب الحرب الوخيمة، بل باعتباره جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، ونتاجاً لأيديولوجيته وجزءاً أساسياً من اقتصاده“.

ربما لأن هذه القضية هي الأحدث فتركت آثاراً حتى في أذهان من يحاولون الابتعاد عنها والانضمام إلى تيارات أخرى، والأصعب من ذلك أن نفهم لماذا سمح سارتر كمفكر بمكانته لنفسه بأن ينخدع بأشخاص، رغم أنهم بعيدون كل البعد عن كونهم بلهاء، كانوا يحلمون بــ "الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى" التي بدأها ماوتسي تونغ "لإشعال النار في مقر" حزب لا سيطرة له عليه. 

لم يكن العنف الهائل الذي نتج عن ذلك مجهولاً، ولا الأفعال الوحشية التي ارتبطت باسمه. ومع ذلك، كان هناك عدد قليل من المثقفين الأوروبيين البارزين، وخاصة الفرنسيين، يحلمون بهذا العنف وكأنه مجرد شكل مختلف عن عهد الإرهاب عام 1792 [وهي فترة مليئة بالعنف شهدتها فرنسا بعد اندلاع الثورة الفرنسية بسبب الصراع بين الفصائل السياسية المتناحرة من الجيروندين واليعاقبة].  صحيح أنه على عكس ما حدث في ألمانيا وإيطاليا، إلا أن هؤلاء المتطرفين لم يقتلوا أحداً. ويمكننا أن نتخيل أن أشخاصاً مثل سارتر قد ربطوا دعمهم الرسمي بحدوث نوع من السلم الفعلي.

وهذا لا يفسر الدعم المقدم لمن أطلقوا على أنفسهم اسم "الماويين"، حتى لو لم يكونوا جميعهم مدعومين من السفارة الصينية. إن ميل سارتر إلى التطرف لا يفسر كل شيء. فقد أطلق على مجموعته التي اشتهرت بأنها “عفوية" اسم "اليسار البروليتاري" وحاولت إصدار صحيفة باسم "قضية الشعب".   وقد سجنت السلطة الديغولية مديرها بأقصى قدر من التعسف ، ثم خليفته. وقد اتصل قادة هذه المجموعة «العفوية» بسارتر وطلبوا منه تحمل مسؤولية هذه الصحيفة من الناحية القانونية، فوافق، ولم يجرؤ ديغول ليجعل من نفسه مثيراً للسخرية بحبس "فولتير". إن "الماوية" لدى سارتر ستتمثل، فضلاً عن هذا الوضع القانوني، في كتابة بعض النصوص لدعم "الماويين" واستخدام شهرته بطرق مختلفة لخدمة أولئك الذين كانت تلاحقهم العدالة، سواء كانوا ناشطين على هامش القانون أو قتلة مثل أندرياس بادر، وذلك سواء للإفراج عن البعض أو التعبير عن القلق بشأن مصير الآخرين.

هذه الالتزامات لم يفهمها إلى حدٍّ كبير أولئك الذين كانوا أشد المتحدثين باسمها وأداروا هذه المجموعة "العفوية" على نحو من النفوذ، وهنا تساءل البعض كيف استطاع سارتر أن يكون أعمى فكرياً كما كان أعمى جسدياً في ذلك الوقت. وعلى أي حال  يجمع مجلد "مواقف التاسع" نصوصاً، تكمن ميزتها في أن سارتر كان يبدو أكثر تماسكاً مع نفسه، مما قد يوحي به ميله إلى التطرف اللفظي الذي كان يزعج سيمون دي بوفوار أحياناً. فعند قراءة مقال "صورة قلمية في سن السبعين" والمقال عن "الماويين في فرنسا" أو المقال المعنون "الانتخابات فخ الحمقى"، يتوقع القارئ أنه يلاحظ اختلافاً في الأسلوب. ويمر هذا الحدُّ الفاصل أيضاً بين المقابلة المكرَّسة حول ـ"أحمق العائلة" لفلوبير، أو المقابلة مع سيمون دي بوفوار من جهة، وبين النصوص الظرفية مثل النص عن "قضية جيسمار" والاتهامات القوية ضد "العدالة الطبقية" من جهة أخرى.

إن أوضح فرق يكمن بالتأكيد بين المقابلات التي يتحدث فيها سارتر بهدوء عن نفسه والمداخلات المكتوبة (من قبل من بالضبط؟) لدعم من يمكن أن يستفيد من الحماية التي يوفرها هذا المفكر البارز. ولكننا نفهم أيضاً ما يمكن أن يكون عليه تطرُّف هذا اللاسلطوي العجوز، كما يعترف هو نفسه. فهو يرى في هؤلاء "الماويين" استمراراً لروح حركة الطلاب والعمال الفرنسية في عام 1968 ولا يهتم كثيراً بالمرجع الصيني - ربما لا يقلُّ عن اهتمام هؤلاء "الماويين" أنفسهم. ويبدو أن حقيقة العنف الذي يدعون إليه ليس سوى تحديث للفكرة القديمة القائلة بأن الثورة كونها عنيفة بالضرورة، يجب على الثوري أن يعلن أنه لا يخافها.

وعلى الرغم من حب سارتر للمواقف المتطرفة، إلا أن مرجعياته ليست ماركسية - لينينية بالمعنى الستاليني أو حتى بالمعنى الماوي. إن مرجعه النظري هو مرجع سارتري بحت. فهو يركز على عمله عن فلوبير عندما يريدون منه كتابة رواية شعبية، ويشير إلى تحليلاته الخاصة في كتاب "نقد العقل الجدلي" عندما يفترض به استخدام مفاهيم ماركسية.