أدونيس لم يكتب قصيدة النثر

ثقافة 2025/01/15
...

  ريسان الخزعلي


(1)

أدونيس، تاريخيّاً، من أوائل الذين بشّروا بقصيدة النثر، ودعا بحماس إلى كتابتها، وكان أوّل من أطلق  التسمية بالعربية نقلاً عن المصطلح الفرنسي. كما كان لمجلة "شعر" اللبنانية بعد منتصف الخمسينيات- وهو من مؤسسيها بالاشتراك مع يوسف الخال وأنسي الحاج- دور كبير في نشر تنظيراته الفنية حول هذا الشكل الجديد في الشعرية العربية، وكذلك نشرها الكثير من نماذجه. 

(2)

في السنوات الأخيرة، وضمن تحوّلات أدونيس الشاغلة، أصبحنا نُطالع تحوّلاً في تسميته لقصيدة النثر. ففي أعماله الشعرية الصادرة عن دار المدى عام 1996، استخدم توصيف (النص غير الموزون)، وفي كتابه (موسيقى الحوت الأزرق) الصادر عن دار الآداب عام 2011 الطبعة الثانية، استخدم توصيف (النثر- الشعر). كما استخدم توصيف (قصيدة الوزن) وليس قصيدة الشعر في مقابل قصيدة النثر. 

إنَّ استخدام توصيف قصيدة الوزن بدلاً من قصيدة الشعر، جاء بقصدية واضحة للدلالة على أن قصيدة النثر خالية من الوزن بالمفهوم الإيقاعي/ العروضي، كما أراد أن يُدلل ضمناً، بأنَّ الشعر يكمن في النثر أيضاً.

(3)

يقول أدونيس في كتابه (موسيقى الحوت الأزرق): قصيدة النثر في الأساس، أي في أواخر الخمسينات وفي مجلة "شعر"، تسمية مرتبطة، على نحو مباشر، بشكل من الكتابة الشعرية، فرنسيّ تحديداً. ولهذا الشكل نموذج أوليّ بدأه الشاعر "لويس برتراند" الذي كان يكتب باسم "ألوازيوس برتراند"، وهو شكل تبناه فيما بعد، بودلير مُحيّياً ريادة برتراند في هذا المجال. وتبعهُ آخرون كثيرون، بين أكثرهم أهمية "بيار ريفييردي ورينه شار".

لا علاقة، مثلاً، بهذا الشكل للوتريامون، بين القدماء، أو لسان – جون بيرس، أو لأندريه دو بوشيه بين المعاصرين. ولا يقترب منهُ هنري ميشو أو آرتو، إلّا نادراً. فهؤلاء كتبوا نثراً- شعراً: شكلاً آخر، إلى جانب قصيدة النثر وإلى جانب قصيدة الوزن – في مفهوميهما المتّفق عليهما في النقد الفرنسي.

وحين يأخذ أدونيس النموذج الفرنسيّ الأصليّ لقصيدة النثر كقياس معياري، ويقارنه بالذي يكتبه معظم كتّاب النثر، عندنا في اللغة العربية، الآن، فإنّه لا يعثر على قصيدة نثر حقّا إلّا ما ندر. ويقول: ما عندنا هو كتابات يُستخدم فيها النثر بطرق خاصة، تشكيلاً وبناءً، يُقصد به أن يكون شعراً. وليس هذا حطّاً من شأن هذه الكتابات، وإنّما هو وصفٌ لا بدَّ منه، إذا كنّا نُريد أن نعرف ما نكتب.

(4)

في فقرة أخرى من حديثه عن قصيدة النثر العربية، ذكرَ أدونيس بعض الأسماء المهمّة، لكن اللافت، أنّه لم يقل أنهم شعراء قصيدة نثر، بل قال عن كتاباتهم بأنّها كتابات (نثريّة – شعريّة): أحبُ أن أُشير هنا إلى  كتابات نثريّة – شعريّة تأخذ أهميتها من "أصوات" كتّابها، ومن "حضورهم" الفني المتميّز. أذكر منهم، تمثيلاً لا حصراً (وفيما عدا الرعيل الأوّل البارز الذي لا يحتاج إلى التذكير به): سركون بولص، عبّاس بيضون، أمجد ناصر، سيف الرحبي  "الأقرب إلى قصيدة النثر". عبد المنعم رمضان، وليد خزندار،  وساط مبارك، محمد بنطلحة. وأظنُّ أنَّ في هذه الكتابات ما يُتيح للنقّاد أن يؤسّسوا لدراسة جماليّة النثر – الشعر، في الكتابة الشعرية العربية الحديثة، ولمعجمٍ من المصطلحات الخاصّة بهذه الجمالية. كما أنَّ بين الأجيال التالية الرّاهنة أسماء أخرى شابّة تتمتّع بمواهب وطاقات كتابيّة لافتة.

وهكذا، غابت تسمية قصيدة النثر، وحلَّت محلها تسمية (النثر – الشعر) في تحوّل جديد من تحوّلات أدونيس الشاغلة.

(5)

وحسب ما جاء في تحوّلاته الجديدة، يعترف أدونيس اعترافاً غريباً لافتاً، إذ يقول بأنّه لم يكتب قصيدة النثر وفق مقاييسها في النقد الفرنسي، بل كتبها من  خلال استخدام (النثر – الشعر). وللدقّة أورد هنا قوله نصّاً كما جاء في "ص: 122" من كتابه (موسيقى الحوت الأزرق) منشورات دار الآداب، الطبعة الثانية: لم أكتب "قصيدة النثر"، بحصر الدلالة، وفقاً لمقاييسها في النقد الفرنسي بخاصّة، على الرغم من أنّني كنتُ من أوائل الذين بشّروا بها، وحرّضوا على كتابتها، واحتضنوها. ويعرف المعنيّون أنّني كنت أوّل من أطلقَ التسمية بالعربيّة، نقلاً عن المصطلح الفرنسي، في مقالة تحمل العنوان نفسه "مجلة شعر، العدد 14، ربيع 1960".

وكان أوّل مَن كتبها، في ظنّي، استناداً إلى تلك المقاييس، واقتداء بأهمّ كتّابها رامبو، ميشو، آرتو، بريتون، هو أنسي الحاج، وقد وصفته آنذاك، احتفاء به، في رسالة إلى يوسف الخال، بأنّه  "الأنقى" بيننا في مجلة "شعر".

من جهتي، استخدمت النثر شعريّاً ضمن رؤية مختلفة، لا أجد هنا مجالاً للخوض فيها، وفي مسوّغاتها. وكنتُ شخصيّاً، في هذا الاستخدام أقرب إلى "وولت ويتمان ولوتريامون وسان جون بيرس".  وهكذا لا أعدُ نفسي بين كتّاب "قصيدة النثر". 

(6) 

وتداخلاً مع هذا التحوّل الجديد اللافت، وبعد الاعتراف (لا أعدُّ نفسي بين كتّاب قصيدة النثر) يكون الاستنتاج ممكناً بأنَّ أدونيس شاعر قصيدة وزن أوّلاً، وكاتب (نثر – شعر) ثانياً، وحسب ما جاء في توصيفاته آنفة الذكر.

وفي المفتتح الأخير، لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الكثير من المطوّلات النثرية في أعماله الأخيرة، لا ينطبق عليها توصيف (النثر – الشعر)، ذلك أنّها استطرادات سرديّة، توصف وتشرح سفراته ومشاهداته في البلدان التي يسافر إليها. إنّها مرايا انطباعات وتأمّلات عن الأمكنة والأحداث التي حصلت فيها سابقاً وحاضراً. إن تحوّلات أدونيس شاغلة فعلاً، وستبقى هكذا، وقد تحتاج إلى الكثير من منشّطات المتابعة.