التشرّد الثقافي.. والهويات المفكّكة في الوعي العراقي
صفاء ذياب
الحديث عن الهوية اجتماعياً وثقافياً أخذ حيّزاً كبيراً في الثقافة العراقية، لاسيّما من تسعينيات القرن الماضي وهجرة ملايين العراقيين ومن ضمنهم مثقفون وأدباء وفنانون، غير أنَّ ما حدث في العام 2003 أخذ هذا المفهوم منحى مغايراً، بعد التقسيمات السياسية والمحاصصة التي شقّت الكثير مما يسمّى بـ(اللحمة الوطنية). وهو ما جعل الأكاديمية العراقية تقدّم الهوية ومفاهيمها بدراسات عدّة إن كانت على مستوى علم الاجتماع أو الأدب، وصولاً إلى الهوية السياسية وغيرها الكثير من التقسيمات.
هذه الدراسات خرجت بمصطلحات عدّة، ربّما من أهمّها ما عُرِفَ بـ(التشرّد الثقافي)، الذي يصف الحالة التي يفقد فيها الفرد أو المجتمع هويته الثقافية وتراثه الثقافي، ويتسبّب ذلك في شعور بالانفصال والتشرّد عن الجذور الثقافية. التشرد الثقافي يحدث بسبب عدّة عوامل، مثل عوامل مسبّبة، كالاستعمار والهيمنة الثقافية، والعولمة والتكنولوجيا، والهجرة واللجوء، والتعليم والمناهج الدراسية، ومن ثمَّ الصراعات والهجمات الثقافية.
وربّما ما حدث في العراق يجمع هذه المسببات كلّها، ابتداءً بالاحتلالات التي لم يكن بدايتها مطلع القرن العشرين فحسب، بل قبل ذلك بقرون عدّة، ومن ثمَّ وصولاً إلى حروب الأربعينيات والثمانينيات وحرب الخليج الثانية ودخول القوات الأميركية، لننتهي بداعش وتهديم البنى الثقافية والتاريخية والدينية لعدّة مدن عراقية.
وتحدّد الدراسات أعراض هذا التشرّد بعدّة نقاط، مثل الانفصال عن الجذور: الشعور بالانفصال عن التراث الثقافي والهوية. والخسارة اللغوية: الخسارة التدريجية للغات الأصلية. والتحيز الثقافي: التحيز ضد الثقافة الأصلية. والانخفاض في القيم الثقافية: الانخفاض في تقدير القيم الثقافية التقليدية. والشعور بالذاتية: الشعور بالذاتية والانفصال عن المجتمع.
وهنا يمكننا أن نطرح أسئلة عدّة فيما يخص فهم التشرّد الثقافي عراقياً، وربّما يمكن فهم هذا التشرّد من وجهات نظر عدّة، بحسب التخصصات المختلفة، وكيف يمكن أن نفهم تفكّك الهوية والسعي لإعادة إنتاجها أو قراءتها حسب المراحل الزمنية التي نقف عليها، فكيف نفسر هذا المصطلح من خلال الثقافة العراقية؟
مفاهيم متداخلة
يبين الدكتور علاء حميد أنَّ هذا المفهوم أو معناه ربَّما كان معكوساً في الثقافة العراقية، إذ قارب مصطلح التشرّد معنى إيجابياً، أي أنَّه نوعاً ما بات يلازم سلوك بعض من المثقفين، وكذلك أخذ يقابل التمرّد والرفض، وحين نراجع تاريخ الثقافة العراقية نجد فيها نماذج ينطبق عليها معنى ودلالة التشرّد، لذلك علينا أن لا ننسى أنَّ التشرّد في القاموس الاجتماعي العراقي يشير إلى الانفصال الاجتماعي وعدم الانتماء، أنَّ تأمّل المصطلح من عدّة زوايا يجعلنا نكتشف أنَّنا أمام تعدّد معانٍ متناقضة لمصطلح واحد معروف، كما أنَّ التقابل بين التشرّد والتمرّد أضاع الكثير من معنى وفاعلية التمرّد والرفض.
ويضيف: الغريب أنَّ التمرّد والرفض في الثقافة العراقية لم يأتِ من باب اجتماعي وثقافي، بل تشكّل من الأيديولوجيا والانحياز السياسي؛ ولهذا ظلَّ التمرّد والرفض قابع على سطح المجتمع وبمعنى آخر فوق وليس في عمق المجتمع، قد يفسّر هذا أنَّ التشرّد ظهر في الثقافة العراقية ولم يتبلور بين ثناياها كفعل فكري واجتماعي وثقافي. تلاشى التشرد كمصطلح في العراق بعد العام 2003، إذ انتقل المجتمع ومن ينتج ثقافته إلى مدار مختلف عن السابق. الملفت أنَّ ميراث الثقافية العراقية قبل العام 2003 آثر على هذا المصطلح، وزاده غموض وعدم وضوحه. ولهذا نحن لا نتملك تفسيراً لمصطلح التشرّد سوى ما نعرف من تجارب ظهرت في الثقافة العراقية التي انتقلت من مسار إلى آخر غير مكتمل الملامح، لعلّنا نذهب إلى تساؤل: هل هناك خيط رابط بين معنى التشرد واللا منتمي؟
الضياع الهوياتي
ويعتقد الدكتور ياسر البراك أنَّ علينا تحديد ما المقصود بـــ(الهوية الثقافية) و(التراث الثقافي)، فطوال عمر الدولة العراقية الحديثة التي جاوزت المئة عام لم يتم الاتفاق على مفهوم واحد ومحدّد للهوية الثقافية أو للتراث الثقافي، لأنَّ حركة الثقافة العراقية عموماً كانت ترتبط بأيديولوجيا الحكومات بوصفها تعبيراً عملياً عن أيديولوجيا الدولة، وبالتالي فهي من تحدّد طبيعة الهوية الثقافية والتراث الثقافي، فالحكم الملكي الذي نشأ عام 1921 نشأة ليبرالية مدنية سرعان ما تحوّل إلى الخطاب القومي المناهض للمستعمر البريطاني سواءً عبر بعض رجالات الحكم الملكي من ذوي التوجّه القومي أو عبر الجماهير التي كانت تقودهم حماسة المثقفين وفي مقدّمتهم الشعراء الذين كانوا يتغنّون بمجد الأمة العربية من جهة ومجد الأمة الكردية من جهة أخرى، وغيرها من القوميات التي نشطت خطاباتها القومية للتعبير عن هويّتها الثقافية واستحضارها للتراث القومي لاستنهاض الجماهير والمطالبة باستقلالها عن المحتل، ومع العام 1958 تغيّر الخطاب القومي تدريجياً إلى خطاب أممي يساري عبر الأحزاب والحركات الشيوعية التي وجدت في الأممية العالمية منطلقاً لهويتها الثقافية متعكّزة على التراث الثقافي العالمي لحركة البروليتاريا. ولذلك ظلَّ المثقف العراقي في منجزه الأدبي والفني لصيقاً بهذا الخطاب حتَّى الانقلابات المتتالية عامي 1963– 1968 التي أعادت الخطاب القومي من جديد للواجهة وأقصت الخطاب اليساري في صراع واضح بينهما انعكس بشكل كبير على المنجز الثقافي لتصبح ثقافة اليسار ثقافة منفى مُشرّد والثقافة القومية ثقافة وطن مقموع للرأي الآخر بالمطلق طوال حقبة حكم البعث.
ومع الاحتلال عام 2003 بدأنا نشهد عودة جديدة لهجنة الخطاب الثقافي المرتبط بالأداء السياسي، لاسيّما مع محاصصة مؤسّسات الثقافة الحكومية ووزارتها ليهيمن الخطاب الإسلامي الطائفي بشقيه السنّي والشيعي على صورة الهوية الثقافية والتراث الثقافي مع محاولات التيارات القومية واليسارية والليبرالية إثبات وجودها في الساحة السياسية الثقافية، ولكن المثقف والأديب ما زال يعيش حالة من الضياع الهوياتي الذي يكرس مفهوم “التشرد الثقافي” بوصفه تعبيراً اجتماعياً عن حركة المثقف داخل المجتمع المأزوم بالهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
تأثيرات سلبية
ويرى الدكتور وسام حسين العبيدي أنَّه يمكن للمتأمّل في ظاهرة التشرّد الثقافي، تلمّس تجلّياتها في الثقافة العراقية وفقاً لسياقات مختلفة نظراً لتاريخ العراق الذي شهد تحوّلات كبرى مثل الاحتلالات، والحروب، والنزاعات الداخلية، والهجرة الجماعية. هذه التحولات أسهمت كلُّها في تشكيل هويّات ثقافية مضطربة. فالاحتلال الذي قامت به الدول الكبرى في القرن العشرين، فرض ثقافته وقيمه على المجتمع العراقي، فضلاً عن التأثُّر بقيم وعادات دول مجاورة دينياً أو مذهبيّاً، وبسببه فقد الأفراد جزءاً من ارتباطهم بثقافتهم الأصلية في مقابل ممارسات أجنبية هجّنت بعض قيم الثقافة العربية في العراق، ما جعل الفرد العراقي يأخذ من الأصيل والهجين في حالةٍ من التخبّط الثقافي. أمَّا الحروب التي حدثت في العراق منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وكان العراق إمَّا فاعلاً رئيساً فيها أو مشتركاً في بعضها، وصولاً إلى سقوط النظام البائد في العام 2003 فقد كانت سبباً في معاناة الثقافة العراقية من تأثيرات سلبية كبيرة، ما أدَّى إلى طمس العديد من المواقع التاريخية والثقافية، بما في ذلك المعالم التي تعكس الهوية العراقية، ما أدَّى إلى شعور مواطني هذا البلد باغترابهم عن ثقافتهم، ولتلك الظروف وغيرها اضطر كثير من العراقيين للهجرة، وما للهجرة من تأثير سلبي على الهوية الثقافية للأفراد، ممَّا يتسبَّب في صعوبة الحفاظ على موروثهم الثقافي في بلدان الهجرة وأكثر تلك البلدان تتمتّع بهويات ثقافية مختلفة. أمَّا آثار العولمة على الثقافة العراقية مع الهيمنة الإعلامية الغربية في بعض المجالات، فقد صار الحفاظ على اللغة العربية، والآداب العراقية التقليدية، والفنون الشعبية أو حتَّى العادات والتقاليد العراقية أمراً أكثر صعوبة بالنسبة للأجيال الجديدة.
تفاهة ممنهجة
ويقترح الشاعر فراس طه الصكر سؤالاً آخر، وهو: من هم صنّاع الثقافة في العراق، أو بصورة أدق كيف تتم صناعة الثقافة وكيف يتم تداولها في المجتمع العراقي؟ وأين نجد تمظهرات هذه الثقافة في حياتنا؟ أعتقد أنَّنا في مرحلة نستطيع القول من خلالها أنَّ الثقافة العراقية الآن تعاني من التشظّي والاغتراب، ولا يمكن لنا أن نمسك بخيط يوصلنا إلى ماهية هذه الثقافة التي ننشدها، وبالنتيجة فإنَّ ما يتم تداوله الآن هو محاولات لصناعة محتوى ثقافي يتم الترويج له، ومن ثمَّ تداوله على أنَّه نتاج ثقافي أو صناعة ثقافية إن صحَّ التعبير. وأنَّ هذا المحتوى لا يمكنه أن يخلق مزاجاً ثقافياً عاماً أو مناخاً يسهم في تغيير بوصلة المجتمع العراقي أو يوجّه رؤاه. ولذلك أرى أنَّنا الآن بحاجة إلى إعادة تحديد المصطلح قبل أن نناقش مسألة التشرّد الثقافي على الرغم من أنَّ ما أشرت إليه يمكن أن نعدّه تلميحاً عن الانفصال عن الجذور الثقافية أو أحد انعكاساته. إذ إنَّ المتداول هو مجرّد ممارسات أدبية وفنية لا تصل إلى مستوى صناعة الثقافة، وهذه الممارسات على اختلاف وتنوّع مجالاتها فهي لا تحظى بالجمهور المتابع الجاد في أقل تقدير، وبالنتيجة فإنَّ هنالك بوناً شاسعاً ما بين هذه الفعاليات أو الممارسات وبين الجمهور الذي ننشده. فكيف لنا في خضمِّ هذه الأسئلة والمعطيات أن نجد صناعة ثقافية في ظل ممارسات لا تمثّل هذه الصناعة وبالنتيجة لا ترسّخها أو ترسّخ قيمها التي إن وجدت فإنَّها ستكون قادرة على تغيير مزاج مجتمع بأكمله لا سيَّما في الظروف التي يمر بها العراق الآن. وأنَّ الخيبة التي نشعر بها لأنَّنا لم نجد هنالك حيّزاً مهماً قد شغلته الثقافة، أو في أقل تقدير بإمكانها أن تكون ضاغطاً فاعلاً في المجتمع العراقي. كل ذلك لا يمكن أن يجرّدنا من السياق الآتي: إذا كنَّا لا نملك صناعة ثقافية حقيقية، ولا نملك جمهوراً باحثاً عن الثقافة أو مريداً لها، ولا يوجد مزاج ثقافي عام، فأعتقد أنَّ المجتمع قد فقد بوصلته وتمَّ تسطيحه وتجريده من جذوره الثقافية ويسير في طريق التفاهة الممنهجة..
معطيات مغايرة
ويختتم الشاعر الدكتور محسن العويسي حديثنا، محدداً معطيات كثيرة عن التشرّد الثقافي حسب وجهة نظره:
- هل التشرد الثقافي استبعاد قسريّ أو اختياريّ؟ فإن كان قسرياً فهو استبعاد مجتمعيّ وثقافيّ يحيل المثقف إلى كتلة جامدة لا يمكن أن يفكّر ويبدع، فتكون أكبرُ همومِهِ إيجادَ مأوى له أو طعام يسدّ به رمقه، وإن كان استبعاداً اختيارياً فالمثقف راضٍ بواقعه الجديد، وهو على استعداد تام لإنتاج ما يمكن إنتاجه من منجمه الخاص.
ويمكن تقسيم التشرّد الثقافي في العراق على قسمين من دون ذكر أسماء أولئك المثقفين:
- المثقف المتشرّد الدائمي أو المتقطع زمنياً: وهذه الفئة -برأي العويسي- هي الأقل وتنقسم على قسمين- أيضاً-، فالقسم الأول تدفعهم لذلك مشكلات نفسية واجتماعية أكثر منها ثقافية، فتراهم أقل إنتاجية من سواهم لأسباب كثيرة أهمها أنَّهم بلا مأوى أو راعٍ. والقسم الثاني هم الذين يحاولون تمييز أنفسهم من غيرهم بارتداءِ ملابس رثّة وفوضوية بألوان تلفت الأنظار حتَّى يحقّقوا حضوراً بصرياً أكثر منه إبداعياً، فهم في وضعهم الطبيعي لا يلتفت لهم الآخرون.
- المثقف المتشرّد المخفي: وهذه هي الفئة الأكثر انتشاراً بين المثقفين، وأغلبهم يقيمون في العاصمة بغداد، إذ يدّعون أنَّهم يمارسون أنشطتهم الثقافية بعيداً عن أسرهم، لكنَّ الحقيقة خلاف ذلك، فهم يعيشون في أماكن لا تليق بالمثقف أن يسكنها، وتكون حياتهم فوضوية إلى حدٍّ كبير، ومنهم من يسكن غرفةً معدومة الخدمات لا تصلح للإقامة أو السكن، لكنَّ ما يهمّه أنَّه مقيم في بغداد، وتلك الفوضوية تختفي عند مغادرته مكانه غير اللائق وحضوره في المناسبات الثقافية أو الفنية أو الأدبية، فيظهر بهندام نظيف وحِلاقة أنيقة، وكأنَّه قادم من فندق ذي نجوم خمس، وهذه مفارقة عجيبة!.