{الطبيب غاشيه}.. الاختفاء الغامض لأغلى لوحة

ثقافة 2025/01/15
...

ترجمة: كريمة عبد النبي




بعد أن فقدت لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، لا تزال عمليات البحث عن لوحة “الطبيب غاشيه” للرسام الهولندي فينسينت فان كوخ مستمرة.

كانت المرة الأخيرة التي ظهرت فيها هذه اللوحة هي يوم الخامس عشر من مايس عام 1990 في مزاد كرستي وسط مدينة مانهاتن. واللوحة عبارة عن بورتريه للطبيب بول غاشيه الذي اعتنى بالفنان فان كوخ في الأشهر الأخيرة من حياته.



وتصور اللوحة الطبيب غاشيه جالسا، وسط حديقة منزله عند طاولة، مسندا رأسه على يده اليمنى. وعلى الطاولة كتابان وزجاجة تحتوي على عشبة، كإشارة من فان كوخ على مهارة وكفاءة الطبيب، وربما كانت إشارة من الرسام إلى أن تلك العشبة كانت نوعا من العلاج الذي تلقاه الفنان. وتعد اللوحة من لوحات ما بعد الانطباعية، إذ أصبح أسلوبه في ما بعد، مدرسة من مدارس الفن التشكيلي.

بلغت قيمة هذه اللوحة عند عرضها للبيع سنة 1990 نحو 83 مليون دولار، وهي الأغلى من بين أعمال فان كوخ. إذ رسم الفنان نسختين من هذا العمل الذي انتهى منه في فرنسا عام 1890، أي قبل أسابيع من انتحاره. ومن خلال رسالة كتبها فان كوخ لصديقه الرسام الفرنسي بول غوغان وصف وجه الطبيب بأنه “الوجه الحساس” الذي يحمل تعبير الحزن في عصرنا ونظرة اليأس والخوف. ويتوقع خبراء الفن أن اللوحة قد يصل سعرها في الوقت الحالي إلى 300 مليون دولار.

وقبل أن يتم بيعها عام 1990، عرض هذه اللوحة متحف ستادل في مدينة فرانكفورت، ومتحف المتروبوليتان في نيويورك. وقد اختفت اللوحة بعد أن عرضها المزاد المذكور، وبقي مكان وجودها واحدا من أكبر الألغاز الفنية على مستوى العالم. 

وبعد كل هذه السنوات التي مرت على بيع تلك اللوحة، والتي شرعت خلالها دوائر مباحث الفن بعمليات بحث عديدة، فتمكنوا من العثور على خيط قد يؤدي إلى الوصول إلى هذه اللوحة. وقد أشارت التقارير إلى أن مشتري هذه اللوحة، وهو شخص ياباني، توفي إثر تعرضه لفضيحة، وبعد وفاته، قام أحد البنوك حينها ببيع مجموعته الفنية، ومن بينها بورتريه “الطبيب غاشيه”، حيث رسا مزاد هذه اللوحة على شخص نمساوي، قام بدوره ببيعها بصفة شخصية عام 1998 إلى أحد الأحزاب الذي لم يكشف عن اسمه للعلن.

وعلى الرغم من أن سوق الأعمال الفنية تعمل في بعض الأحيان على الحفاظ على أسماء الشخصيات التي تقتني الأعمال الثمينة، إلا أنها تسعى أيضا لتوظيف أشخاص يعملون على جمع المعلومات الموثوقة حول من يقتني مثل تلك الأعمال. وعلى الأغلب يكون مثل هؤلاء الأشخاص إما يمثلون دور المزادات، أو من الوسطاء الذين يعملون على بيع وشراء الأعمال الفنية.

عمل محررو صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، عدة أشهر، على البحث عن مجموعة الأشخاص الذين كانت لهم علاقة بعملية بيع هذه اللوحة سنة 1998 ومجموعة الخبراء الذين تتبعوا عملية البيع هذه. وشملت عملية البحث هذه، التي بدأها محررون آخرون قبل سنوات، دور المزادات الفنية والمعارض الفنية التي تستضيف مثل تلك الأعمال الفنية العالمية.

التقى الباحثون خلال عملية البحث عددا من خبراء الفن، الذين أوضحوا أنه ليس لديهم أدنى فكرة عن مكان تواجد هذه اللوحة. لكن عددا من المطلعين أشاروا إلى أن اللوحة يمكن أن تكون بحوزة واحدة من العوائل الأوروبية الغنية.

وبالنسبة لعدد كبير من المهتمين بالفن، فإن مثل هذه الأعمال الفنية لا تعد عملا إبداعيا فحسب، بل هي جزء من التجارة التي تشير إلى رغبة مالكي مثل هذه الأعمال بعدم إظهارها للعلن ومشاركة الآخرين بعرضها.

وفي حديث للصحيفة، أشار ميخائيل فايندلي، وهو أحد المختصين بعروض مزاد كرستي، وكان حاضرا أثناء عملية بيع لوحة “الطبيب غاشيه” عام 1990 ، إلى أنه “يسمح القانون للأشخاص ببيع الأعمال الفنية بصورة شخصية، وليس عن طريق المزاد فقط”.

أما بالنسبة لمؤلفة كتاب “بورتريه الطبيب غاشيه” سينيثيا بالتزمان، فإن اللوحة، ورغم بيعها بصورة شخصية، إلا أنه يجب أن يجري عرضها في المعارض الفنية أو المزادات العلنية. وأشارت بالتزمان إلى أنها لم تكن تتوقع أن اللوحة ستختفي.

بورتريه طبيب وحزن

ينبغي لأي شخص يروم تتبع تاريخ هذه اللوحة ومكان تواجدها، أن يبدأ بقرية أوفير سور واس خارج مدينة باريس التي نزل فيها فان كوخ في العشرين من مايس عام 1890. كان فان كوخ وقتها قد دخل السابعة والثلاثين من عمره حين سكن هذه المدينة وتعرف على الطبيب بول غاشية. كان فان كوخ يعاني من اضطراب نفسي قاده إلى الانتحار. كان الرسام في أوج عطائه الفني حين رسم لوحة “كنيسة أوفير” ولوحة “حقل القمح والغربان”.

بحلول مساء اليوم المذكور نفسه؛ العشرين من مايس عام 1890، التقى فان كوخ الطبيب بول فيرديناند غاشيه، وهو طبيب نفسي مختص بالاضطرابات العصبية. كان الاثنان من محبي الفن، وبادر حينها فان كوخ برسم لوحة لحديقة منزل الطبيب، ثم بورتريه للطبيب نفسه. وقد عكست اللوحة ما كان يراه فان كوخ على وجه الطبيب، وما كان يراه في نفسه ودواخله. كتب فان كوخ عام 1890 قائلا: “إن تعبير الحزن ذاك سيبدو وكأنه لمحة عبوس للعديد من مشاهدي اللوحة، لأنها تحمل التعبير الحزين في عصرنا”. 

بعد أن وضع فان كوخ حدا لحياته، انتقلت ملكية هذه اللوحة إلى أخيه ثيو، ثم إلى زوجة ثيو جوانا التي باعتها عام 1897 بما يقارب 58 دولارا فقط. وجاء العام 1904 لتنتقل اللوحة إلى يد شخص ألماني بعد أن دفع مقابلها 400 دولار.

أصبح فان كوخ أكثر شهرة بعد وفاته، وعلى الأخص داخل ألمانيا، ففي عام 1911 وضع متحف شتاديل لوحة “الطبيب غاشيه” إلى جانب أشهر الأعمال الفنية، لتكون بعدها أغلى لوحة من بين الأعمال المعروفة لدى ذلك المتحف.

بعد أن استولى النازيون على السلطة خلال ثلاثينيات القرن الماضي، عمد المتحف إلى إخفاء هذه الأعمال الفنية بهدف حمايتها من التدمير. بدأ النازيون بجمع اللوحات الفنية بهدف إتلافها، لكن لوحة “الطبيب غاشيه” تمكنت من النجاة سنة 1937. وبحلول نهاية العام نفسه تم نقل هذه اللوحة إلى برلين. وبعد عدة أشهر قام أحد وكلاء الفن ببيع هذه اللوحة إلى فرانز كوينغر، وهو مصرفي ألماني يعيش في مدينة أمستردام، ومن ثم اشتراها مصرفي ألماني آخر ونقلها إلى مدينة نيويورك، حيث بقيت اللوحة معروضة لدى متحف المتروبوليتان لفترة عقود من الزمن. ثم بيعت اللوحة عام 1990 إلى شخص ياباني، وهو مدير لشركة تصنيع الورق، الذي تعرض إلى مشاكل جنائية لتنتقل ملكية اللوحة وأعمال فنية أخرى كان يمتلكها إلى بنك فوجي الياباني.

بحلول العام 1997 بيعت اللوحة إلى شخص نمساوي يدعى وولفغانغ فلوتل، كان قد انتقل إلى نيويورك وتزوج من آن آيزنهاور حفيدة الرئيس الأمريكي آيزنهاور. وعندما تعرض فلوتل إلى ضائقة مالية، باع هذه اللوحة بصورة شخصية بعملية بيع أشرف عليها مزاد ساوثبي، ولم يتم الإعلان حينها عن سعر اللوحة ولا عن المشتري. ومنذ ذلك الحين بقي مكان اللوحة مجهولا.

ويقول ووترفان ديرفين، وهو مهندس يعمل حاليا على إعادة ترميم منزل الطبيب غاشيه: “إن هذه اللوحة هي جزء من التاريخ، كما أنها جزء من حياتنا الحالية، وإن كون مكانها غير معروف، أمر لا يطاق”.

ويقول أحد الباحثين من متحف فان كوخ: “أحيانا يجب علينا التحلي بالصبر، وآمل أن تظهر هذه اللوحة مرة أخرى، وأنا على قيد الحياة”. ومرت سنوات طويلة كانت خلالها توقعات كثيرة عن من يمتلك هذه اللوحة حاليا، بينما يتوقع الكثيرون أن مزاد ساوثبي قد يكون هو الجهة التي باعت هذا العمل، وأن هذه الجهة تبقي هوية المشتري طي الكتمان، وذلك لكي تبقى هي الجهة الوحيدة التي تمتلك معلومات عن المالك، ليتمكن المزاد في حالة الوفاة أو الطلاق، من شرائها مرة أخرى. 

ويعمل المختصون بالمزادات الفنية على المحافظة على علاقة وثيقة مع مالكي الأعمال الفنية، ويعملون على متابعة أماكن تواجد هذه الأعمال على مدى عقود من الزمن، وغالبا ما يحتفظون بمعلومات عن زبائن البيع والشراء، بينما يتم إخفاء تلك المعلومات عن الآخرين بطريقة أو أخرى. 

وتشير بعض التوقعات إلى أن لوحة فان كوخ هي الآن بحوزة عائلة إيطالية تعيش في سويسرا. وقد تكون الرئيس التنفيذي لمزاد ساوثبي ديانا بروكس واحدة من الذين يمتلكون معلومات عن مالك هذه اللوحة، إذ أشرفت على تنظيم عملية بيعها عام 1998، إلا أنها رفضت في اتصال هاتفي الإدلاء بأي معلومة عن المالك، بدعوى أن تلك المعلومات يجب أن تبقى طي الكتمان.

لغرض تتبع مسار الغموض وراء أي عمل فني عالمي، يتوجب تتبع تاريخ ظهور وبيع هذا العمل. وفي ما يتعلق بلوحة “الطبيب غاشيه” تبدأ عملية تتبع مسار العمل من فيلا تقع على بحيرة لوغانو، التي بنيت سنة 1687 ويمتلكها أمير من بروسيا. كانت هذه الفيلا ملتقى للأثرياء ومحبي جمع الأعمال الفنية العالمية الشهيرة.

وقبل عقود انتقلت ملكية هذه الفيلا إلى البارون هاينز هاينريش، الذي كان يستقبل عددا كبيرا من الزوار لغرض مشاهدة ما يمتلك من مجموعة فنية لم تقتصر على اللوحات فحسب، بل شملت عددا من المجوهرات، المعروضة حاليا في متحف مدريد الوطني. توفي البارون عام 2002، لتنتقل ملكية الفيلا إلى زوجته البارونة كارمن التي باعتها سنة 2014 إلى عائلة أنطونيو إينفيرنيزي، بقيمة تزيد على 90 مليون دولار.

ويعتقد عدد من المطلعين أن عائلة أنتونيو إينفيرنيزي، الذي توفي قبل عدة سنوات، ابتاعت لوحة “الطبيب غاشيه”، لكن التقارير تشير إلى أن العائلة أنكرت امتلاكها هذه اللوحة، بينما رفض أفراد عائلة إينفيرنيزي التعليق على تلك التقارير. 

ومؤخرا أوضح ميخائيل فايندلي، أن اللوحة انتقلت إلى مالك جديد منذ عام 1998، لكنه رفض الحديث عن تفاصيل هذا الموضوع.

عن صحيفة نيويورك تايمز الأميركية