فلسطين حاضرة دوماً لإنقاذنا
مع إحكام الجناح الذي يقوده المجرم صدام حسين التكريتي، لقبضته على مقاليد السلطة في العراق، في منتصف سبعينات القرن الماضي، افترق حزب البعث العفلقي الحاكم تماماً عن حلفائه وشركائه السياسيين من القوى الوطنية، الذين عقد معهم العهود والمواثيق، وضربها عرض الحائط، فبدأ بمهاجمة الأحزاب الكردستانية، ثم الأحزاب ذات الفكر الديني الإسلامي، وانتقل لتصفية الشيوعيين والديمقراطيين بحملة دموية شرسة، وسرعان ما استدار نحو أعضاء حزبه متوّجاً ذلك بمجزرة قاعة الخلد في بغداد، بعد ستة أيام من انقلابه على (أحمد حسن البكر، الأب القائد)، واستلامه السلطة في 16 تموز 1979، ليبدأ عصر المحرقة التي دخلها العراق والمنطقة، (باقتدار صميمي) حسب تعابير (فارس الأمة العربية)، وجمهرة من الوصوليين والمطبِّلين من سقْط المتاع من مدّعين وخونة الثقافة والفن يجمّلون صورته وحروبه وسياساته الدموية بالأغاني والأشعار والافتراءات حتى رسموا شجرة عائلة للديكتاتور المجرم تربطه بالإمام علي (ع).
أيامها كنت ولحوالي عام ونصف أعيش متخفياً ومطارداً من قبل ضباع البعث وأجهزته الأمنية، فقط لكوني مثل كثيرين، ورغم كل المضايقات والضغوطات، رفضت أن أكون بعثياً. ومع تولِّي صدام حسين مقاليد الحكم، بات واضحاً للكثيرين، أن العراق مقبل على مصير مجهول، فلم يكن أمام الآلاف من أبناء العراق الأوفياء لمبادئهم وكرامتهم، ممن رفضوا سياسة التبعيث الشوفينية، سوى المغادرة، وإلى المجهول! هكذا منتصف صيف تموز عام 1979، كنت مجبراً على ترك وطني مشياً على الأقدام، عبر صحراء العراق الغربية ـ الجنوبية، مع البدو الرحَّل، إلى مدينة حفر الباطن الحدودية في العربية السعودية، والمواصلة إلى الكويت، التي سبقني اليها بنفس الطرق، العديد من مثقفي العراق، عرفت منهم لاحقاً: الشاعر إسماعيل محمد إسماعيل، الشاعر عبد الكريم گاصد، الفنان طالب غالي، الشاعر الراحل مهدي محمد علي، وآخرين.
في الكويت، التي عشت فيها حوالي عاماً كاملاً، بهويات منتحلة، قدمت الحركة الديمقراطية الكويتية، ومنابرها الثقافية، خصوصاً الصحافة، الدعم المعنوي والفني للكثير من المثقفين العراقيين، الذين يعيش غالبيتهم بشكل غير قانوني، إذ راح الكثير منهم يكتب وينشر بأسماء مستعارة، موضوعات ومساهمات سياسية وثقافية أغاضت السلطات العراقية كثيراً.
وكنت واحداً، من الذين تبنَّت الصحافة الديمقراطية في الكويت، نشر مساهماتهم القصصية وخواطرهم ومقالاتهم السياسية، هكذا ظهرت نصوصي بأسماء مستعارة عديدة، في مجلة العامل الشهرية، اسبوعية الطليعة، والصفحات الثقافية لصحف يومية مثل القبس، الوطن، الرأي العام والسياسة، حيث عمل هناك محررون من جنسيات عربية مختلفة، وكان الغالب بينهم أسماء فلسطينية ولبنانية عرفوا بميولهم الديمقراطية وحتى اليسارية. ولم يكن اللجوء لأسماء مستعارة، خياراً سهلاً لأي كاتب، فمعرفة السلطات الصدامية في بغداد، بالهوية الحقيقية لأي كاتب ستكون لها انعكاسات كارثية على عائلته وأحبائه، هكذا نشطت السفارة الصدامية بزيارة أغلب الصحف، مدعية تفهمها لما يُكتب ورغبتها باللقاء مع الكتاب للتفاهم معهم وشرح وجهات نظر الحكومة البعثية الصدامية.
في مجلة الطليعة، كان لي عمود اسبوعي ساخر بعنوان (دردشة)، اجتهدت فيه على مناقشة موضوع الديمقراطية في البلدان العربية، واجتهدت في الاستفادة من أسلوب الكاتب الراحل شمران الياسري ـ أبو گاطع في توظيف الحكاية الشعبية، وأسلوب الكاتب الأميركي آرت بوخوالد في اللعب باللغة ومرادفاتها وتحوير الكلمات بشكل ساخر. هكذا ظهر مندوب عن السفارة الصدامية في الكويت، في غرفة رئيس التحرير الراحل الدكتور سامي المنيس، يحمل قائمة بالأسماء التي يرغبون باللقاء بها وكان اسمي (المستعار) من ضمنها.
في فترة الاختفاء في بغداد ومدن عراقية، ولحماية نفسي من ضباع السلطات الصدامية ووسط أجواء الملاحقة الشرسة من قبل أجهزة أمن النظام الديكتاتوري المقبور، كان عليّ، وللتضليل، خلق شخصية مختلفة جداً لنفسي، في علاقاتها وأسلوب حياتها وأيضا شكلها واختيار اسم مستعار للتعامل اليومي، فحرصت على أن يكون قريباً من كنية (أبو فواز) التي عرفت بها خلال نشاطي لسنوات عديدة في (اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي ــ تأسس عام 1951) وهو منظمة شبابية سرية، منع نظام البعث نشاطها، فاخترت اسم (فوزي عَطية)، و(عَطية) هو أسم أمي الحبيبة. واستخرجت بمساعدة أصدقاء هويات باسم (فوزي عطية) بدت مقبولة، نفعتني في مجالات عديدة. في الكويت واصلت استخدام اسم (فوزي عطية). ووسط الحضور الكبير للأخوة الفلسطينيين واللبنانيين في الكويت، في الحياة العامة والحياة الثقافية، فإن (فوزي) كانوا ينادونه : (أبو الفوز)، هكذا وقعت أغلب كتاباتي في مجلة الطليعة باسم (فوزي أبو الفوز) ليبدو كاسم كاتب فلسطيني، وحين جاء مندوب السفارة الصدامية لمقابلة هيئة تحرير الطليعة، ويبدو أنهم مارسوا ضغوطاً شديدة عليهم، طلب الأستاذ سامي المنيس، التوقف لفترة عن كتابة العمود، وحين أعاود الكتابة عليّ تذييل المقال بكلمة (بيروت) لتدعي المجلة أنها تستلم المواد عبر البريد ولا معرفة مباشرة لها بالكتاب المعنيين. وللطرافة أعدت كتابة العمود بصيغة مختلفة واخترت له عنوان (بصوت عال) فعلق الأستاذ المنيس: (كانت دردشة صارت صياحاً، لو باقين على الأول أحسن!)، ومن الجدير بالذكر أن عدد آيار لعام 1980 من مجلة العامل، صودر من الأسواق في الكويت ومنع من دخول العراق بضغط من النظام العراقي بسبب قصة قصيرة لي بعنوان (ما حدث ليلة 7 /12) تحكي موقف حقيقي تعرضت له مناضلة عراقية في دوائر الأمن البعثية في البصرة.
هكذا ظن العديد أن (فوزي أبو الفوز) هو كاتب فلسطيني، مهتم بالشأن العربي ومنه العراقي، وأكد لي ذلك لقائي بشخصية أكاديمية كويتية، وهو شقيق لمسرحي كويتي معروف، وكنت بمعية صديق فلسطيني، أتحرك باسم (صباح كريم عباس) وإذ عرف كوني من العراق، ولاحظ عدم اهتمامي بما يجري في العراق وعموم الشؤون السياسية، وكان بيده آخر عدد من مجلة الطليعة، سلمني إياها ناصحاً إياي بقراءة ما يكتبه فلان وفلان و(فوزي أبو الفوز) مشيراً إلى أنهم يطرحون أفكاراً من المهم الاطلاع عليها، وبالكاد مسك صديقي نفسه ولم يفضحني، فهذا الـ ( صباح كريم عباس) المتقمّص شخصية اللامبالي بما يجري حوله، ما هو إلا أحد كتاب مجلة الطليعة وهو نفسه (فوزي أبو الفوز)! وتدريجياً أبقيت اسم (أبو الفوز) وحده، وواصلت الكتابة بهذا الاسم المفرد المستعار طويلاً، إذ صدرت لي أول مجموعة قصصية (عراقيون) عام 1985، في ربوع كردستان العراق، ونشرت لي مجموعة من القصص القصيرة في مجلة (الثقافة الجديدة) ودوريات أخرى تحت هذا الاسم. هكذا صار اسم (أبو الفوز) كنية أدبية واسماً في التعامل اليومي بين الأهل والأصدقاء.
اسمي الصريح هو (يوسف عليّ هداد)، وأنا فخور جداً باسم والدي، عامل السكك، الكادح الفقير، الذي لم يترك لأبنائه بعد وفاته سوى أدوات عمله وتأريخه المشرف، والذي تمتع بصفات نادرة من الإيثار من أجل تربية أبنائه ، والذي زرع فينا روح الاستقلال والابتعاد عن الاتكاء على اسم قبيلة أو مدينة والخ. وبالمناسبة فإن (هداد) اسم قديم وله معنى جميل، فهو آله العواصف في الأساطير الشرقية، وأحسد اأشقائي الكاتب الدكتور (جاسم هداد)، والشاعر والكاتب (عبد الكريم هداد)، لأنهم يستخدمونه في نشاطاتهم الثقافية والسياسية.
في عام 1990 وكنت في دمشق، أساهم مع الصديق الشاعر المبدع (كامل الركابي) في إعداد أول ملف عن أحداث (الأنفال) لتنشره مجلة (الثقافة الجديدة)، طلب مني أستاذي وصديقي الدكتور غانم حمدون، وكان وقتها رئيس تحرير مجلة (الثقافة الجديدة)، التخلص من اسم (أبو الفوز) المفرد وأجد اسماً مركباً لأوقع به مساهمتي في الملف وعموم كتاباتي لاحقاً. حينها لم أشأ استخدام اسم ربما يلغي نشاطاتي وكتاباتي السابقة ويجعل من الاسمين وكأنهما شخصان مختلفان، وسمع الحديث الصديق الراحل الشاعر (مخلص خليل)، وفي نفس اليوم ونحن نتناول طعامنا في مطعم دمشقي سألني العزيز مخلص خليل: (أبو الفوز ما هو اسمك الأول الصريح؟) فقلت: (يوسف)، فصاح: المسألة محلولة (يوسف أبو الفوز). وهكذا ولد اسم صار جزءاً من حياتي وشخصيتي.
الطريف أن كثيرين لا يزالون يخلطون بين أسم (يوسف أبو الفوز) وبين أسماء فلسطينية مشابهة، لكتاب وفنانين، ومنهم محرك البحث غوغول، فحين بحثنا مع شريكة حياتي شادمان، عن جواب في تطبيقات فيسبوك عن سؤال: (ما هي الجنسية المناسبة لشكلك؟)، وضع صورتي داخل ألوان العلم الفلسطيني، بل إن صديقاً عزيزاً أخبرني أنه وضع اسمي في محرك البحث للذكاء الاصطناعي فأعطاه معلومات عني بكوني من فلسطين! مرحى فلسطين وجدت لانقاذنا ولإضفاء البهاء على أسمائنا !