شعرية السؤال والمكابدة
د. سمير الخليل
يتميز الخطاب السردي في مجموعة (بريد الآلهة) للقاص ميثم الخزرجي بالتعاضد والتنافذ الضمني بين النسق الجمالي والبعد الفكري والفلسفي، وكشفت براعة البحث وتقصّي مأزوميّة الواقع في هذه القصص عن تعاشق واقتران بين عمق السرد وإثارة الأسئلة الإنسانية والوجودية والسايكولوجيّة والاجتماعية حتّى تصبح كلّ قصّة عبارة عن سؤال معرفي وطبقي، واشتباك مع الوجع وإفرازات المكابدة، نظراً لحدّة الصراع بين (الحلم والكابوس) و(القوّة والضعف) و(الحقيقة والخرافة) و(الصدق والزيف) و(الذات والآخر)، و(الذات والتسلط) و(القبح والجمال) و(الحرية والاستبداد)، وكلّ ما يتماهى أو يترادف مع هذه الثنائيات المتضادّة، وقصدية الخطاب الذي يجمع بينها،
ولم يقصر الكاتب في هذه الديناميّة أنساقها على اتباع أسلوب محدد بل سعى إلى تنويعات لتعميق الاشتباك على وفق تجلّيات واقعية وسايكولوجية وميثولوجية وطبقية، وبشكل يعكس حدّة الصراع وما يكشفه من إشارات ودلالات وإحالات وتأويلات.
ونلحظ قدرة الكاتب على الاتّساق مع الفكر المعرفي، وتناول الأزمات والإشكاليات الواقعية لكنّه لم يقدّمها بأسلوب المباشرة والتقريرية الفجّة من خلال انتقاء زاوية المنظور السردي، وتحريك الدلالات التي تنطوي عليها الشخصيّات الاستثنائية المضادّة والأحداث التي تعكس شكل الصراع الوجودي، والأسئلة الفلسفية التي تختزل مأزوميّة الواقع بكلّ أبعاده وتجسيداته، ويمكن الاستدلال على ثنائية أخرى في عمق هذه القصص تنطوي على السؤال والجواب الناتج عن (ميكانزم) البحث والتحرّي والاستكشاف الذي تمارسه الشخصيات وهي تتحدى الوعي والمصير والإرادة والصدام مع الواقع أو الصدام مع الآخر.
وتتجلّى حدّة هذا الصراع الضروس بجملة وردت في قصّة (أسئلة محرمّة) حين قلب الكاتب منطوق (الكوجيتو) الديكارتي وأصبحت الجملة تحمل كثيراً من الاستفزاز والاحتجاج “ أنا أفكر .. إذن أنا أُقتل “ !، ولعلّ ثنائية الكشف القائمة على السؤال والجواب تحيلنا إلى سيميائية ودلالات العنوان (بريد الآلهة) الذي يكشف عن حضور الفكرة المتناسلة، ووجود الجواب بشكله الميثولوجي والواقعي والوجودي ووجود المسافة التراجيدية بين مرسل (الرسالة أو الجواب) وبين المتلقّي الذي يحاول إماطة القناع وإظهار الحقيقة التي تغيّبها مسافات التمويه والإرسال القصدي وترويض الآخر، وجعله تحت سطوة الإرغام، وعلى وفق هذه الخوارزمية السردية نجد حدّة التناقض ووجود الاحتدام بكلّ أشكاله وأجوائه الميثولوجية والسيوسيولوجية، والوجودية والطبقيّة وصراع الذات المقموعة والمستلبة مع الآخر بوصفه بؤرة التسلّط والهيمنة بكل أشكالها ولبوساتها ومتّجهاتها، وبذلك تعملق هذا الاحتدام بين الأعلى والأسفل والقوي والضعيف والمستبد والمسالم والفكر والإرادة، وتخلل هذه المعطيات نسق ترميزي ينفتح على طاقة من التأويل والإيحاء والبنية الإشاريّة والإحالية على واقع يعاني من الاضطراب والقلق والهشاشة والتناقض.
إن بعض شخصيات القصص يغرقون في دوّامة القلق الوجودي، ويسعون للبحث والتقصّي عن الحقيقة الغائبة أو السؤال الغائب، وأن شعور أبطال القصص بالاستلاب والاستحواذ، والهيمنة هو الذي يجعلها تتجه إلى التعبير عن الرفض بأسلوب البحث عن الحقيقة وإثارة السؤال، وبعضها يتموضع في زاوية الرصد والمراقبة وامتلاك الوعي، بما يحدث كنوع من الحيازة على التوازن والاحتجاج الداخلي، وقد تجسّدت معالم هذا (البراديغم) السردي على شكل تجلّيات حكائية تقدّم مساحة لإضاءة بؤر العتمة والتأزم، وما تكابده الشخصيّات من إفرازات هذه الهيمنة والتدجين القصدي حفلت المجموعة بظواهر فنية كشفت عن قدرة للمزاوجة بين الجمالي والفكري، ولم تكن مجرد تقصٍّ قصدي لمشكلات وجوديّة وأزمات وصراع، بل عمد القاص إلى استثمار جماليات في الشكل واللّغة وتقديم مشهدية تكشف عن التناقض والتضاد ومعالم الصراع، ولعلّ من أبرز علامات الاشتغال الفني توافر أسلوب الكاتب على لغة فيها كثير من العمق وجمالية المفردة وشفافيتها مما أضفى على الأداء شعريّة جاذبة وباذخة، وكان الهاجس الشعري مهيمناً على المفردات والإشارات والصور الشعرية الموحية، ممّا جعل القاص ميثم الخزرجي يقدم بانوراما صوريّة لكل الأحداث، مع توافر النسق الرمزي والفانتازي، وتوافر المفارقة بمعناها الوجودي كما عكست ذلك قصة (مصادفة لا يقبلها الصفح) التي تميّزت ببراعة الاستهلال وبقدرة الكاتب وهو يصف الحمّال وهمومه: “ما إن تعمّد عمر المدينة بيوم آخر قابل للزوال ليُدّخر في خزائن الرب، بكل ما اعتزمته نوايا الغارقين في هوس الحياة، هيأ مرهون الحمّال عربته العتيدة، وراح يوغل في مداخل السوق التي ما انفكّت عنها حلبة المتبضعين علّه يلتفت إليه الحظ بإيماءة من أحدهم، فيما إذا اختصته أحاديثهم المبلّلة بالدهاء..”(المجموعة:7).
وتتجسد المفارقة الوجودية بوجود الحالة السايكولوجية لمرهون وارتباط حكايته بالبستان المسكون وانبهاره بأنوثة الفتاة الطاغية التي تعكس خياله الجامح “ارتسم له المشهد على هيأة فتاة دسمة الأنوثة ذات ملامح تربو إلى الملاك متبوعة بابتسامة شبقية لا تخلو من مكر..” (المجموعة: 9). وأحيطت بمرهون الحكايات الغريبة “مرهون: قل لنا كيف اغتصبتك الحوريّة وسرقت حصانك؟” (المجموعة: 11)، وتجسدت محنة الزوجة (مرزوقة) إزاء الرجولة الساكنة وبدأت تفكر بما يحدث لمرهون بعد أن أصبح “الحمّال قطعة عطنة مطمورة برائحة الدخان وثلّة من الأسئلة التي لا إجابة لها...” (المجموعة: 12)، مما يقودها إلى نوع من التمرد واستحصال الفاحشة كرد فعل “لتعلن استسلامها لرغبتها التي سوّلت لها أن تمارس الفاحشة تنكيلاً بزوجها الذي أكله العار..” (المجموعة : 14)، وتبدأ مشكلتها مع الصبي (سعد) الذي يكتشف سلوكها مما يجعلها تقدم له الحلوى ومحاباته بغية عدم افتضاح سرها، ونلحظ في القصّة شخصيّة (مرزوقة) وهي تبحث عن ذاتها وسط خراب الآخر، ومحاولة إيجاد ما يجعلها تشعر بأنوثتها المعطّلة بسبب الحمّال الذي فقد كثيراً مما يجعله نقطة جذب لها، والقصّة تقدّم صورة لهذا الصراع والتناقض، والشخصية القلقة الباحثة عمّا ينقصها على وفق تواتر سردي ولغة جميلة .
وفي قصّة (الغرفة) يجسد الكاتب سيرة البطل الذي يعشق الألوان والرسم كما يعشق العزلة، حتى تحولت الغرفة بوصفها مكاناً مغلقاً إلى نوع من المكوث ورصد الواقع من بعيد، وإثارة الأسئلة الوجوديّة وإحساسه بالضجر: “أطلق تنهيدة محشوة بالضجر ليمضي وفورته المعتادة، لا سرَّ في الكون، يضحك كثيراً ليدخن أكثر ويسرح إلى حيث ما اقتاده هذيانه، وكان إذا ما أصابته لوثة الشك أحدَّ بصره الحالم نحو زاوية ما ليوقد في سرّه لحظة اليقين لكن سرعان ما تتعرّى حاجته لدفق من الأسئلة” (المجموعة: 19)، وتمثّل الغرفة دالة على الاغتراب والعزلة التي تحيط بهذه الشخصيّة القلقة والباحثة عن الحقيقة التي تجعلها تنعم بالاستقرار والتناغم الداخلي، ورمزيّة الغرفة تشير إلى حدّة الصراع بين الذات والواقع المحيط مما يجعلها شخصيّة تدمن عزلتها وتجتر الأسئلة والهواجس داخل جدران الغرفة، ونلحظ عبارات الختام تؤكّد هذا الارتكاس: “استنفر في سرّه كثيراً ليلتفت والجنون الذي أكله إلى النافذة مصحوباً بصوته الحافز : أين ملامحك أيها الكون المعدم؟ مبادراً يتفحص ملامحه بكفّيه المرتعشتين” (المجموعة: 24).
تواجهنا شخصيّة إشكالية أخرى تتجسّد في قصة (صراخ متئد) ولعلّ عنوان القصة يشي بالتناقض وجمع الأضداد، إذ نلحظ السرد قائماً على البوح الذاتي، باستخدام ضمير المتكلّم ليعكس هواجس الصراع السايكولوجي داخل الشخصيّة، وهي تقوم بالرصد والبحث والتحرّي عن الحقيقة والمثال من خلال السؤال وحدّة الوعي: “كان ذكائي الحاد وفطنتي الكبيرة تجعلني أحظى بتوجهات على مدار اليوم، بل أنَّ والدي كان يتجنب مسايرتي معه إلى دكان الأعشاب الذي ورثه عن جدّي الحاج” (المجموعة: 27)، وفي خضم هذا الواقع يرصد البطل وهو يعاني من حدّة الوعي والقدرة على المراقبة والتحرّي عن الحقيقة وتشغله شخصيتان شخصية (المجنون) أو (الحاج جلال) وتجواله في المحلّة وهو يصرخ: “الحياة سجن كبير كبير، يصيح .. نحن نشيخ وأوجاعنا فتيّة، ولم أعرف كنه تلك الجملة في وقتها، وعلام يبدون مظاهر الريبة والحذر؟ علّه منبه لذكر الرب، أم إنّه داع لاتّقاء الخطأ، وهل نحن أدمنّا أخطاءنا لهذا الحد؟” (المجموعة: 27) .
أمّا الشخصية الأخرى التي يدمن بطل القصّة رصدها واقتفاء أثرها هي شخصيّة المعلم (وليد) وما يثيره من مظاهر الثقافة والرقي، وتحرّضه الأم حيث تتمنّى له أن يكون مثل المعلم (وليد)، وتبدو شخصيّة المعلم هي شخصيّة المثقّف البعيد عن الخوض وينعم بعزلته: “ولم يكن وليد كثير الاحتكاك بمن حوله ربّما لم يكن يعرف عما يدور، على حسب اعتقادي بسبب قلّة تواصله مع أبناء المحلة الذين يبدون له كُلَّ التقدير” (المجموعة: 30)، ويصبح عشق الكتب والتصاق المعلّم (وليد) بها دالّة من دوال الشخصيّة المثقّفة الباحثة عن الحقيقة، ولعلّ ثنائية الأعشاب والكتب تشير إلى تضاد على مستوى العلامة، ممّا جعل بطل القصّة وهو باحث من نوع آخر يسأله المعلم ويحاوره: “- أستاذ وليد لكم تمنيت أن اسألك عن هذه الكتب التي تحملها معك كلّما مررت من جانب الدكان .
- نعم إنّها كتب ثقافية .
- عمّن تتحدث ؟
- عن كلّ شيء.. عن الحقيقة وعن معرفة الذات .
- حقيقة من ؟
- حقيقة ما نحن به الآن .
تسمّرت قليلاً محاولاً انتزاع كلام أقل وطأة يبادلني الحديث فيه:
- يا حبيبي إن القراءة تجعلك قريباً من لحظة الدراية منتفضاً لها بعيداً عن العاطفة التي تسيّرك كالدمية، أي أن نسمّي الأشياء بمسمياتها بلا إضافات مزيفة” (المجموعة: 32).
ولابدّ من تناول قصة (بريد الآلهة) التي تحمل عنوان المجموعة –من باب إطلاق الجزء على الكلّ- ولتميزها في خلق عوالم لإثارة السؤال والمزاوجة بين النسق الواقعي والميثولوجي من خلال صياغة فانتازيّة تجمع بين الواقع والمجاز، والماضي والحاضر والسؤال والجواب، ومن خلال متن حكائي يطرح هذه التقابلات، ويأتي السرد ذاتياً وبأسلوب ضمير المتكلّم، وعلى لسان أستاذ في علم اللّغات السومريّة، مهنته وشغله بالأساطير يجعله يبحث في العوالم الميثولوجية ويقوده إلى مكان أسطوري غامض يسمّى (تل بشارة) وبعد الاقتراب والبحث والتقصّي تحدث الضربة الفانتازيّة حين ينتقل الأستاذ إلى عصور ميثولوجية قديمة، ويجد المخلوقات والملوك والآلهة، ويجد من يحتجزه في حجرة أشبه بالقبر ويمسكه شخصان : “دخل عليّ نفس الشخصين أخذاني إلى بئر مياهه تمور بحركة توافقية، جرّداني من ملابسي قال أحدهم :
- خذ واغرف من هذا لكي تمتلئ روحك بالنقاء وتنتزع الضغائن منك، أبصرتهما برفق.
- من أنتما وأين أنا الآن ؟.
- اغتسل، ومن بعد الطهارة ستحاكم على ما اقترفته” (المجموعة: 256).
والفانتازيا تكمن في هذه الانتقالة من الزمن المعاصر الواقعي إلى الزمن والمكان الميثولوجي بكلّ ما فيه من صراع وطقوس وتجلّيات، ويصبح البحث أو تقصّي الحقيقة والسؤال هو الذي يؤدّي إلى تجسيد الواقع الفانتازي، ويجد أنّ الحقائق المتداولة هي التي تهيمن على كل عصر .
ولعلّ من القصص المتميزة والعميقة التي تتوافر على متعة سردية ورمزية شفيفة هي قصّة (أسئلة محرمة) ونستدل على دالّة التناقض في دلالة العنوان، والتضاد الذي يجمع بين السؤال وتحريمه وبذا تضعنا أجواء القصّة في عالم مليء بالتابوات والنكوص والقلق والهشاشة التي تصل إلى عدميّة وجودية، ولعلّ البؤرة الدراميّة في القصّة تكمن في حكاية الحلاّق (سوادي) الذي يتعرّض إلى محنة سببها هروب ابنته (سميّة) من بيتها بعد أن زوجها من رجل دين داعية أكبر من عمرها، واختفاء (سميّة) التراجيدي تجسّد على شكل سؤال كبير لنكتشف بعدها عالم الحاج (كامل) صاحب العمارة والهيمنة على كلّ شيء ويطالب بإغلاق محل حلاقة (سوادي) لأنه سيء الأخلاق بعد هروب ابنته، ونجد شخصيّة المثقف المضاد لـ(الحاج كامل) يتجسّد بشخصية (الأستاذ عمار) صاحب المكتبة الذي تستهل به القصّة أحداثها: “منذ أن تبدّدت صدمة الاغتيال التي وقعت في منتصف الشهر الفائت للأستاذ عمار صاحب المكتبة التي تنتصف الشارع الخلفي، حتى تناقلت الألسن بفطرتها المعهودة، وثرثرتها المحكمة متخمة بتحليلات باتت تشرع الأبواب الموصدة أمام الواهمين والغافلين ممّن تهاوت أذهانهم بعيداً عن مسرح الحدث” (المجموعة : 62)، وتبدو القصّة برمزيتها وقوة تعبيرها وتعدّد دلالاتها تربط بين مقتل واغتيال الأستاذ عمار صاحب المكتبة واسمه من العمران والبناء، يحمل دلالة إشارية، ومن ثم غياب أو هروب (سميّة)، ونلحظ الربط بين الاسمين له دلالة على مستوى التأويل والترميز، ويصبح السؤال عن هذا الموت أو التغييب وهيمنة (الحاج كامل) ورجل الدين الداعية زوج (سميّة) يُثير كثيراً من الأسئلة داخل القصّة ويتعمّق النسق الدلالي والرمزي فيها. إنَّ مجموعة (بريد الآلهة) للقاص ميثم الخزرجي تقدّم عوالم سردية عميقة وباذخة وهي تشتبك مع الواقع وتفكك بؤر العتمة والانكسار فيه على وفق صياغة سرديّة متفرّدة تجمع بين شعرية السؤال وتجسيد الوجع بكل تمثّلاته وعوالمه .