البساطة مفهوماً إبداعيّاً

ثقافة 2025/01/16
...

  محمد صابر عبيد

تظهر في عالم الإبداع على مختلف المستويات ثنائية شديدة الأهمية والتأثير في إنتاج النموذج الإبداعيّ بشتّى صنوفه وأشكاله، وهي ثنائيّة البساطة والتعقيد، أو قد تسمى في مظهر آخر من مظاهرها المفهوميّة ثنائيّة الوضوح والغموض، وهي ثنائيّة إشكاليّة ليس من السهل المرور عليها بسرعة وإصدار حكم مرتجَل بشأنها؛ لما تنطوي عليه من التباسات كثيرة على أكثر من صعيد

تختلف فيها وجهات النظر بحسب فلسفة الرؤية نحو مفهوم الإبداع وتجلّياته وإشكالاته ونزعاته ومراميه ومقاصده، إذ لكلّ مفهوم من مفاهيم هذه الثنائيّات مساحة لها صلة نوعيّة بعالم الإبداع؛ من حيث الفكرة والموضوع والمادة ومستوى الإعداد المعرفيّ للمبدع وموهبته وأسلوبه وثقافته وتجربته وخبرته، فضلاً عن نوعية الفنّ الإبداعيّ الذي ينتجه ويبرع ويبتكر فيه باستمرار، فضلاً عن نوعيّة مجتمع التلقّي الذي يتداول هذا الفنّ.

نتعامل عادةً مع مفهوم "البساطة" في مجال الإبداع خارج المفهوم التقليديّ المعروف عن "البساطة" في الثقافة الاجتماعيّة المتداوَلة، لأنّ "البساطة الإبداعيّة" تعني أنّ علاقة المبدع مع إبداعه تتطلّب في لحظات الإبداع استخدام الأسلوب الأمثل لصوغ الخطاب الإبداعيّ أولاً، وثانياً إدراك طبيعة التوصيل التي تمكّن المبدع من الاطمئنان على أنّ ما يضعه في خطابه من تجارب تتحوّل إلى نموذج إبداعيّ؛ لا بدّ أن يبلغ مقصده على أمثل صورة وعلى أكمل وجه، وهذا المقصد يتوفّر في البداية على حمل الرسالة الإبداعيّة المشفّرة داخل الخطاب، ومن ثمّ يبتغي الدخول الحرّ في دائرة التلقّي -إرسالاً واستقبالاً- من أجل نشر المتعة والإدهاش والتأثير في اختبار مستويات التلقّي والتفاعل المنتِج مع الخطاب الإبداعيّ.

لعلّ الذي يهمّنا في حدود هذه الرؤية حصراً هو الإبداع الأدبيّ بوصفه المجال الأقرب إلى حقل الاشتغال هنا، على النحو الي يجعل العناية بالفهم الدقيق لأسرار اللغة في مجال الإبداع الأدبيّ هي المحور الأساس في البحث داخل مفهوم البساطة، فكلّما كان هذا الفهم الدقيق عالياً ومثمراً وأصيلاً انعكس على قدرة المبدع في الاقتراب من حالة "البساطة التعبيريّة"، لأنّها تقتضي هذا الفهم العالي لأسرار اللغة وطبقاتها المضمَرة الغاطسة في الأعماق؛ بما يدفع المبدع إلى رؤية النور الدلاليّ والسيميائيّ الكثيف والمُبهِر داخل حيّز هذه البساطة، وهو يتمتّع على صعيد البناء والتشكيل النصيّ بأعلى قدرة على الإحاطة بطبيعة التكوين الإبداعيّ الخلّاق للخطاب، وما يترتّب عليه من إمكانيّة تتيح له تلمّس حساسيّة اللغة على مستوى التعبير والتشكيل والتصوير والتدليل والتفكير والرؤية.

لا بدّ في هذا المضمار إذن من ضبط الأصول والقواعد والقوانين الإبداعيّة للنوع الإبداعيّ؛ في مجال الاستخدام اللغويّ الصحيح والفصيح والمناسب أولاً، ومن ثمّ القدرة على تطوير الأداء اللغويّ بما يحفظ مرجعيّات الأسس "التقاليديّة" في طبقات اللغة ومستوياتها التعبيريّة -نحواً وصرفاً وفقهاً لغويّاً وبلاغةً-، وإضافة طاقة لغويّة جديدة إلى فضاء التعبير تحمل كثيراً من الطرافة والإبداع والابتكار، على طريق الوصول إلى طبقة البساطة في أعلى درجات تجلّيها التعبيريّ والتشكيليّ، وضمن قدرتها على استثمار هذه الطاقات اللغويّة العميقة في أصل اللغة بما تتوفّر عليه من حمولات دلاليّة، تنأى فيها لغة التعبير الأدبيّ عن التقعّر والفذلكة اللغويّة واللفّ والدوران حول البهرجة اللفظيّة التي لا تنتهي إلى نتيجة واضحة.

تضع إشكاليّةُ العلاقة بين البساطة والتعقيد -على مستوى التعبير الأدبيّ- الأديبَ في اختبار قاسٍ لا يمكن عبوره بسهولة، فاللجوء إلى أسلوب التعقيد والغموض بحجّة الارتفاع بمستوى التعبير إلى طبقة عالية في الأداء؛ قد يتعرّض في حالة ضعف قدرات الأديب إلى حالة الانزلاق في متاهة الغموض المغلق الذي يؤدّي إلى عزل النصّ وموته، لأنّ هذا الأسلوب مهما بالغ الأديب في الخوض داخل مفاصله؛ فلا بدّ له من مفاتيح فنيّة يجعل المتلقّي الذكي قادراً على استثمار هذه المفاتيح وفتح مغاليق النصّ، حينها تكون عملية القراءة قد بلغت أعلى مراتبها في تحقيق المتعة واللذّة والفائدة دفعة واحدة، أما بلوغ أسلوب البساطة التعبيريّة العابرة لطبقة التعقيد والغموض فهي مرحلة أرقى أسلوبيّاً، وقد تصل إلى أرفع أساليب التعبير في عالم الأدب حين ينجح الأديب في تقديم أسلوب يقوم على البساطة المكتظّة بالقيمة، بما يجعلها تحمل أقصى ما يمكن حمله من دلالات ورموز ومعانٍ إبداعيّة خلّاقة، بلغة ترتقي إلى أعلى درجات السلامة والسلاسة والإدهاش.

تسهم البساطة التعبيريّة داخل فضاء الأداء اللغويّ الأدبيّ في فرض النموذج على طبقات القرّاء والمتلقّين كلّها، ولا تستثني أيّ طبقة من طبقات التلقّي المتداوَلة؛ حتّى تلك الطبقة البسيطة التي تتلقّى الخطاب الأدبيّ في مستواه الظاهريّ فقط، لكنّ الطبقات الأخرى التي ترتفع في درجات سلّم التلقّي نحو الأعلى درجة بعد درجة تحضر في قدرات تلقٍّ مختلفة، ترتفع فيها طبقات الخطاب وتتكشّف عن قيم دلاليّة رفيعة وثريّة وخصبة؛ تمنح فيها كلّ قارئ حقّه من المحصول القرائيّ بما يوازي قدراته القرائيّة، إلى أن يصل الخطاب إلى طبقة "القارئ النموذجيّ" القادر على فكّ مغاليق الخطاب كلّها؛ والدخول الفاتح إلى أعماق النصّ الأدبيّ، ذلك هو ما نصطلح عليه "الناقد" الذي يدرك قانون البساطة الإبداعيّة الخلّاقة؛ ويحترم على هذا الأساس جوهر القدرات الكبيرة التي يتمتّع بها صاحب الخطاب؛ بما يمكّنه من الوصول إلى أرض التلقّي الساخنة، بوصفها الميدان الحقيقيّ الأساسيّ الذي يجعل من فكر البساطة الإبداعيّ فضاءً تنويريّاً، ينقل فعاليّة القراءة وحراكها الغزير نحو منطقة الكشف بأعلى ما يمكن من كفاءة الضوء القرائيّ المبين.