بغداد: وائل الملوك
رحل بنا المخرج الفاضل الجعايبي في سرديات الواقع المرير الذي تعتاشه المرأة العربية بين المجتمع المحكوم بتقاليده القبائلية وصراع الأحكام البشرية، من خلال تسليط الضوء على امرأة تقتل طفليها بوحشية لتحميهما من واقع الحياة، الذي أصبح دمويا بغياب الضمير.
والأحداث التي جرت في تونس عام 2015 ، بشأن امرأة يمنية هربت من وطنها الى تونس مع رجل تونسي، بحثا عن حياة أفضل من حيث الحقوق والحريات واحترام المرأة، لكنها اصطدمت بواقع لا يختلف كثيرا عمّا عاشته في وطنها، وبعد قتل طفليها بوحشية، رفضت الفرار واختارت مواجهة مصيرها من خلال قبولها المثول للمحكمة، بوجود محامية متطوعة للدفاع عنها أمام المحاكم القضائية، لكنها هي من حددت مصيرها في الآخر لتختار "آخر البحر" مرسى لها.
تقارب الحكايتين
هذه الأحداث وثقها الجعايبي بأسلوب فلسفي إنساني واقعي لمدة ثلاث ساعات، وقدمها على خشبة المسارح في العديد من المهرجانات وآخرها مهرجان بغداد الدولي للمسرح، تحت عنوان "آخر البحر"، واستمد ثيمة المعالجة الفلسفية في الحكاية، بحسب قوله المذكور في فولدر العمل، من تقارب الأحداث للمسرحية اليونانية "ميديا" لمؤلفها الشاعر اليوناني يوربيديس (480 ق.م – 406 ق.م)، إذ تقرر "ميديا" بعد قتل ابنيها مغادرة الأرض نحو السماء على عربة الشمس تجرها الأفاعي المجنحات فرارا من عدالة البشر.
وهنا تقصد المخرج من بلورة الأحداث وإعادة طرحها للكشف عن الأوجاع المتكررة في عالمنا العربي بشكله العام، وواقع المرأة اليمنية التي أثارت جدلاً كبيراً في الاوساط التونسية، بعد تعرف المجتمع على مجريات الأفعال التي استقدمت عليها، وعن أفعال زوجها التونسي الإجرامية الذي استغلها، ومن ثم أراد الزواج بغيرها، وساهم بقتل العديد من أهل خطيبته، كما فعلت المرأة اليمنية عند هروبها من اليمن وقتلت أهلها.
جرأة الطرح
عرف الجعايبي بين الأوساط الفنية بالجرأة في تقديم أعماله، واشتغاله في "آخر البحر"، كان من خلال الاعتماد على الطابع الفلسفي والإنساني وطرحه بواقع جريء، عبر تقديم معالجة عميقة للقضايا التي تتعلق بالإنسان والمأساة التي ترتكز لدى البعض في ثقافته الفكرية.
فمن خلال النص اعتمد على الحوارات العميقة، التي تثير الاسئلة الوجودية مع التركيز على مفهوم الإنسان الداخلي للحرية وما له وما عليه، والكشف عن الصراع الذاتي الداخلي للفرد، فيما جعل المدرسة الواقعية المباشرة والرمزية أساس طريقته الاخراجية في "آخر البحر"، بمعنى عرض الواقع بمصداقية بما يشمل العادات والتقاليد اليومية ومشكلات الناس الحقيقية مع التركيز على المشاعر والصراعات الداخلية.
أما سينوغرافيا العمل، فكانت بسيطة جدا ومكملة للمفهوم الاخراجي باعتماده على لقطة مصورة عرضت عبر "الداتشوا" لموج البحر وساحله، وإضاءة حددت الأبعاد والارتكاز للممثلين، عبر الانتقال بين الضوء والظل والغاية كما ذكرنا سابقا هي "الكشف عن التغيرات النفسية والصراع الداخلي للفرد".
الأداء المتقن
منظومة الاداء كانت لدى أبطال العمل متقنة بشكل لا يوصف، وهذا دليل على الخبرة الكبيرة التي يمتلكها الممثلون "صالحة نصراوي، وريم عياد، ومحمد شعبان، وسهام عقيل، وحمادي البجاوي"، فالتعبير الجسدي لما يحتويه من تعزيز المشاعر، هي لعبة المخرج الأساسية في تقديم الثيمة المطروحة لتصنع تأثيرا كبيرا لدى المتلقي، إلى جانب الموسيقى والأصوات المرافقة لموج البحر والرياح، التي حولت خشبة المسرح إلى مساحة رمزية وساهمت بتعزيز الحالة النفسية للممثلين.
تساؤلات الجعايبي
وضع المخرج الجمهور أمام مجموعة من التساؤلات والتأمل في مضمون المعاناة التي تعانيها المرأة في مجتمعنا وتقاليدنا العربية، وفي الوقت نفسه أعطى الجعايبي مجموعة من الدوافع التي تبرر أفعال المرأة اليمنية باتجاه ابنائها وعائلتها وحتى زوجها الذي غابت عنه القيم الإنسانية وكان هو الدافع لقتل المرأة لأهلها وأبنائها، ودافع الانتقام لدى اليمنية كشف عن فساد منظومة القضاء وعن تجارة الآثار والممنوعات وتسلط العقلية الذكورية القبائلية على مفهوم المجتمع، لتختتم مسيرتها في آخر البحر.
وهنا خلق المخرج الفاضل الجعايبي في عرضه مسرحية "آخر البحر" مجموعة من التساؤلات موجهة للجمهور.. من له شرعية الحكم بالحياة أو الموت أمام ما يحدث حولنا وأمامنا من مجازر وحشية يومية يقترفها الإنسان رغم تبجحه بالإنسانية؟ ومن له حق محاسبة "ميديا" اليونانية و"عاتقة" المرأة اليمنية على كل الجرائم التي أقدمتا عليها؟