خصائص التّجريد الهندسيّ

ثقافة 2025/01/19
...

 خضير الزيدي 


يشير الغالب من نقاد الفن الحديث إلى أن المدرسة التجريدية تعد اتجاهاً ذا قيمة مميزة بدت ولادتها في بدايات القرن العشرين، وهذا الاتجاه الفني الذي عمل عليه قسم من الفنانين الاوربيين ومنهم "موندريان وكاندينسكي" وقسم لفنانين غربيين آخرين، إضافة لأسماء من دول المشرق العربي، ولكن لنتساءل ما الفن التجريدي وما خصائصه وأنواعه، وأي الأشكال كانت الأكثر استجابة لعقلية العربي وهو يتأمل هذا الفن أو يتأثر به؟ 

علينا القول بأن كل من خبر هذا الفن سيعرف أنه يميل لاستخدام الأشكال، ومنها الهندسية لهذا نجده يعتمد في الأساس على المربع والمثلث والدوائر وكان "كازيميز ماليفيتش" اسماً نتذكره في هذا الجانب ومنه عمله الشهير "المربع الأسود"، وأيضا فازاريلي في الكثير من نماذجه ذات الطابع التجريدي الهندسي، أيضا نجد نفرا من الفنانين هرع إلى ضرب من التجريد اللوني بحيث لا تجدها متناسقة أو تكاد تغيب فيها الأشكال الرياضية، بل هناك توزيع لكتل لونية منسجمة، وأيضا لابد من التذكير بنمط آخر وهو التجريد التعبيري الذي يركز على  الانفعالات والمشاعر، ومن أهم رواده جاكسون بولوك. 

ومن أجل أن نضع القارئ أمام المقارنة التي نراها مناسبة سيكون من المفيد أن نلفت أنظارنا إلى ما أنجزه فازاريلي وكيف استفاد من الزخرفة الإسلامية في منجزه الفني، وما الجديد الذي قدمه حول مفهوم الايهام البصري، وأيضا نضع أمام أعينينا ما قدمه الفنان اللبناني جبران طرزي من اشتغالات معرفية وجمالية خصص لها من عمره وقتاً طويلاً كي يمد المتلقي بعشرات الأعمال الفنية ذات الطابع التجريدي الهندسي. 

وفي الحقيقة لا أجد غرابة في المقارنة بين هذين الفنانين، فكل واحد منهم أخذ في الحسبان انتاج لوحات تسعى لتعميق الشعور وانفتاح أفق التأمل في عقلية المتلقي لأعمالهما، مع التركيز على الوحدة البنائية لمضامين العمل فقد بينت الاجراءات التركيبية لمتن أعمالهما أنها تسعى لتقديم شكل مختلف ومنتظم في آن واحد. 

هذا الاختلاف أنبنى على أسس تعتمد على استخراج صياغة عمل يبدو معياريا ومحسوسا ويحدد دلالته من ضمن مواجهة الادراك الحسي، وعدم تقليد الأفكار التي لا طائل من التذكير بها، أيضا يأتي التنظيم وفقا لحسابات رياضية ومحاولات مبذولة لإعلاء الاتجاه الجمالي جراء العمل في التجريد الهندسي، فإذا كان فازاريلي اعتمد في قسم من مرجعياته على انساق الزخرفة الاسلامية، فأن جبران طرزي اعتمد في الإطار النظري والجمالي على عناصر من الفن الشرقي، وجاء الاهتمام بهذا السياق ليس من باب التأثير، إنما المواصلة مع الإرث الفني القديم الذي تدرب على ذائقته والعمل فيه من خلال أسرته التي امتهنت صناعة الحرف التقليدية في دمشق والمغرب وبيروت. فعلى سبيل المقارنة بين الفنانين نجد فازاريلي عمد على توضيح الأشكال الدائرية بشكل متكرر، وهي دلالة ارتباط تأتي وفقا لمخيلة تعتمد على الايهام البصري، مثلما عمل عليه في انتاج لوحته الموسومة "تكوين بالأزرق" عام 1975 العائدة لمتحف كاس ميرديان وهو عبارة عن انصاف دوائر تعتمد في سياقها الشكلي منظورا هندسيا واضعا صورة الايهام في منتصف العمل، وكل من يشاهده سيرى بأن العمل مدروس بدقة وحسابات رياضية صادمة اما جبران طرزي فقد وضح في السياق النظري لمنجز أعماله في المربع والمستطيل والمثلث على فكرة التركيب التقليدي (قائم/ نائم) مهتما بدراسة الخطوط والألوان، وحتى خاصية التركيب النهائي لعمل اللّوحة ايضا أشار في كتابه "تنويعات هندسية" لنمط من التركيب المشتق من مربعات غير متساوية، وهو يمزج بين مستطيلين من التركيب التقليدي ليقع المربع في زاوية معينة يحددها الفنان بناء على رؤيته الجمالية والغاية، هنا الوصول لمثالية وكشف جمالي عبر تكوين الأشكال المنتظمة. 

والحقيقة أن الاثنين جسدا الفن التجريدي الهندسي بأحلى تطلع كنوع من الفنون الإنسانية التي تبيّن مدى حيوية الأشكال الهندسية، وكيف يتم استخلاص المؤشرات الفلسفية والجمالية من وضوح صورتها، لكن ما يجمع بين الاثنين أن فكرة الفنون الإسلامية والمشرقية القديمة تضفي طابعاً من التأثير وتمثّل لهما مرجعية تذكر. وهذا يجعلنا نقول إن جبران طرزي بيّن مدى ارتباطه بتراثه الفني بينما نجح فازاريلي في توظيف الفن الشرقي  وأدرك أن محاكاة الزخرفة الإسلامية هي استثمار لجماليات شكل لا يريد له أن يغيب عن ذاكرة المتلقي الغربي، وهو ما فعله جبران طرزي من خلال لوحاته التجريدية وإتقان تركيبها وتطوير أسلوبه في انتاج مثل 

هذا الفن.