علي حبيب بيرماني
غالباً يصدمنا العالم بصمته، وعلاماته الملغزة، وبدافع وجودي لفك شفراته الغريبة، التي ينفك جزء ضئيل منها، ويستعصي الآخر، حتى على بعض الفلاسفة، فالأول يكاد يكون مفهوماً بعض الشيء، لكننا في الأعم الأغلب نعجز عن التعبير عنه، بينما يستعصي حل الأخير، لو حُل لماتت الفلسفة. وبين هذا وذاك نكمن نحن المتأرجحين كالبندول بحثاً عن حل أو وهم يبدد قلقاً استشرى في كل مفاصل الوعي.
نترك عالماً استعصى عن التفسير لنفضل العيش قرب الكتب محاولة للفهم، أو لإشباع فضولنا المعرفي.
عقولاً متفرقة ومتفاوتة يرتكن أحدها على الآخر، يختلف التفسير والمُشكل، والهم واحد.
وفي أغلب الأحيان نختار من يجيبنا على وفق ما نحب. نختار السياق العلمي، بحثاً عن الدقة والموضوعية في تبيان الحقائق العلمية القائمة على أساس المعرفة البشريّة. أما إذا كنا ذوي خيال واسع نريد الحقيقة والوهم لإرضاء العقل والعاطفة، أو عزاءً للقهر الكوني المُمارس ضدنا، نتجه صوب الأدب، لكي نلبي رغباتنا التي تفضل التشويق على الحقيقة الصادمة.
في العالم المُعاش، نختار رفاقنا في الحياة على وفق خيارات محددة ومقصورة بعوامل اجتماعية، إلا أن الأمر مغاير حينما نتجه صوب الفكر، فنختار رفقاء وأصدقاء نحس بهم بالقرب منا، حتى وإن لم تربطنا بهم صلة مكانية أو زمانية أو عرقية. فبالإمكان اختيار أصدقاء مثل ماركيز وكازنتزاكيس وبودلير وسارتر وغيرهم الكثير، نسكنهم بالقرب منا، ليصبحوا لنا رفقاء بالسكن يقاسموننا حزننا وفرحنا من على الرفوف.
هذه السرديات تخرج من كونها قصص محكية، لا تفضي إلى شيء، بل إنها تجارب عميقة وطرق في فهم هذا الوجود الذي يبعث على الحيرة والغموض.
رحلة الاكتشاف هذه لا تخلو من مخاطر جمة، يبدأ الأمر بالدهشة لحظة دخولنا عوالم لا نفقه منها شيئاً، ويبدأ الكشف التدريجي للخبايا والمناطق المظلمة باستمرار في القراءة، أما الخطورة التي تواجه القارئ هي بكسر التابوهات واليقينيات التي قد أعتقد سابقاً بافتراضها مسلّمات غير قابلة للتشكيك، هذا القتل البطيء للطمأنينة وتسليط الضوء حول قضايا لم يعطها الاهتمام الجاد سابقاً. تصبح شاغله الجديد، لتدخل عوالم جديدة مدار اهتمامه.
بنيان جديد يلزمنا، بعد عملية التقويض هذه، جدولة جديدة للمفاهيم، ترميم أفكار اصابتها خدوش، جُروح وجب علاجها، بالربت على الأنا. شرخ بين ذات تصدّعت هويتها وأخرى طور النشأة. هوة تفصل بين الاثنين وجب ردمها.
لتجلس غريباً محاطاً بتجارب عدة، لا تدري من أين تبدأ، تأخذ ما يشتهي عقلك، تتصفّح، تُهمّش، تقلب الورقة فيتقدم الزمن، ترجع إلى الوراء فيرجع الزمن، تقرأ على مهل فيتباطؤ الزمن، أنت إله ما دامك تسيطر على الزمن، شعوراً لا ينفك من كونك إلهاً، اكتب وستصبح خالقاً، ليكتمل عرشك على الورق.
القراءة فعل سامٍ، ونبع يروي عطشنا المعرفي، متى ما تركنا النبع اضمحللنا وزدنا شتاتا. الكتب فردوسنا وملاذنا الذي يحاول التعويض عن كل هذا القهر الكوني.
اجتراح المفاهيم أو تناص الأفكار يبين الهم، الذي يختلجنا، ويسهم في الاستفادة من كل تلك الحلول التي يفترضها السارد سواء كان فيلسوفاً أم روائياً، فهي تخرج من كونها تأكيداً للذات فحسب، وإنما هذا التقديم الذي يعبر عن فهم متعدد وقراءات مفتوحة لا ترسو على فهم محدد ومتعين. توسع من تعميق دائرة الفهم والتعاطي مع العالم، من خلال تعدد زوايا الرؤى، واختلاف المعالجات المستخدمة في مضمار المعرفة، كل تلك الأفكار لا تأتي بطريقة أخرى سوى القراءة، هذا العالم الغريب والذاتي، يحتاج الكثير من المران والمرونة، والتأني في اتخاذ الأحكام، إنه قتل بطيء للطمأنينة نعم لكنه قتل كذلك للدوغمائية والاتجاه الواحد. قتل للتعصّب، قتل للانسلاخ، قتل لكنه ايما قتل، قتل محبب ومسالم.