{الريادة} و{الرائد}.. إشكاليَّة التوصيف

ثقافة 2025/01/21
...

  عبد علي حسن


تعدُّ قضيَّة الريادة من القضايا المعقّدة، لا سيما في الآداب والفنون، على الرغم من وضوح معناها اللغوي والاصطلاحي، إلّا أنَّها تتعرضُ وبشكلٍ دائمٍ الى إشكاليَّة في إطلاق هذا المصطلح، ولعلّ مردّ ذلك إلى أسبابٍ كثيرة، وفي مقدّمتها نقل أو استعارة هذا الجنس الأدبي أو النوع أو النمط من البنية الثقافيَّة للآخر وعدّ من قام بالنقل أو الاستعارة بالرائد فتحسب له الريادة في شيوع النمط المنقول، كما أنَّ عدداً من النقاد والباحثين يعدّون المحاولات الإرهاصيَّة ريادةّ، والبعض الٱخر يعدّون القدمَ في العمر معياراً لريادة النمط في بيئة لم تشهد وجوده، إلّا أنَّه سبق وإنْ وجد في بيئة أخرى وتمَّت استعارته أو نقله عبر الترجمة أو الاطلاع أو التثاقف والتأثر، على أنَّ كل ما ذكرت لا صلة له بأصل مفهوم الريادة وتوصيفه الصائب، وينسحب ذلك أيضاً على مصطلح الرائد ومفهومه.

ومن أجل فكّ الالتباس وحلّ هذه الإشكاليَّة التي يتعرض لها مفهوما الريادة والرائد في النقد والبحث الأدبي العراقي والعربي سنقوم بمعالجة ذلك لأجل أنْ تكون مفاهيمنا الأدبيَّة والفنيَّة في منطقة السلامة عند استخدام المصطلح كي نكون على بينة من معايير التطور والتجديد في الأجناس والأنواع الأدبيَّة والفنيَّة الفاعلة في مشهدنا الثقافي.

ولكي يكون مدخلنا في المعالجة سليماً لا بُدّ لنا من إيراد التعريف اللغوي والاصطلاحي لمصطلح "الريادة" ليكون هذا التعريف المثابة والمنطلق الصحيح في تقويمنا للاستخدام السليم في البحوث والدراسات الأدبيَّة والنقديَّة.

والمعنى اللغوي يشير إلى الفعل (راد يرود روداناً ورياداً والمفعول مرود، وراد القوم قادهم وتقدّمهم)، أما المعنى الاصطلاحي فيشير إلى أنَّ الريادة كمفهومٍ تعني قدرة الأفراد على الابتكار والتفكير خارج المألوف والمستهلك والشائع وتطوير أفكارٍ جديدة متميزة تركّز على تحقيق أهدافٍ معينة، ووفق ذلك فإنَّ الرائد هو الشخص الذي يقود أو يبتكر في مجالٍ معين، ويعدُّ عادة أنموذجاً يحتذى به في مجاله، فهو يتمتع برؤية واضحة وقدرة على التأثير في الآخرين وتحفيزهم على تحقيق أهدافٍ مشتركة.

وفي ضوء ما تقدم من معرفة بالمعنى اللغوي والاصطلاحي لمفردتي (الريادة) و(الرائد) فإنَّنا سنعالج الإشكاليات الثلاث في استخدامهما، فالإشكال الأول هو اعتبار الإرهاصات الممهدة لجنسٍ أو نوعٍ أدبي وفني ريادة والمنجز لها رائداً.

إذ يذهب العديد من الباحثين والنقاد إلى عدّ الإرهاصات ريادة لظهور جنسٍ ما أو نوعٍ ما، كما يحاول البعض منهم البحث في المنجز التراثي العربي عن محاولات الخروج على الأنماط أو وجود نصوصٍ تشير إلى الأجناس والأنواع الأدبيَّة خاصة تلك التي وفدت إلى البنية الثقافيَّة العربيَّة من البنية الثقافيَّة للآخر والأوروبيَّة تحديداً، كالرواية والقصة والقصة القصيرة جداً والشعر الحر وقصيدة النثر، إذ إنَّ الشكلين الوحيدين الشعريين اللذين يجدان امتدادهما بالثقافة العربيَّة هما الشعر العمودي وقصيدة التفعيلة فقط، وما عدا ذلك فإنَّ جميع الأشكال التعبيريَّة التي يتم تداولها في المشهد الثقافي العربي شعراً أو نثراً قد وردت إلينا من الآخر، ولا نعدُّ ذلك عيباً ثقافياً في البنية الثقافيَّة العربيَّة التي شهدت تعالقاً وتحاوراً مع المنجز الثقافي للآخر، إذ أبدع الكتَّابُ العرب في الإضافة والتجريب على تلك الأجناس والأشكال وبما يتناسب وحركة الواقع الاجتماعي والثقافي العربي بكل تحولاته.

ولعلَّ دوافع تلك المحاولات التي تجعل الإرهاصات هي محض ريادات أو محاولات إيجاد جذورٍ لبعض الأشكال الأدبيَّة المعاصرة في التراث العربي، إنما هي سعيٌ من قبل النقد العربي للمساهمة في صيرورات الأجناس والأنواع الأدبيَّة التي يشهدها النقد العالمي، وإذا كانت الإرهاصات - وكما أجمعت المعاجم- تعني الأمر الخارق للعادة يظهر للنبيّ قبل بعثته، يكون من مقدمات النبوة، كان ذلك إرهاصاً للنبوة، وتأتي بمعنى التمهيد والمقدمة والبداية، المقدمة التي تشير إلى قرب وقوع الشيء، فإنَّ الريادة هي مجمل الخصائص والسلوكيات المرتبطة بقدرات إبداعيَّة وتجديديَّة، والرائد هو من يأخذ روح المبادرة والتحرك، وبمعنى آخر فإنَّها -الريادة- تنهض على تلك المقدمات/ الإرهاصات لتصوغ قوانينها وظهورها كحركة طليعيَّة قائدة في مجالها بعد توفر ثلاثة إجراءات الأول/ القصديَّة، الثاني/ التكرار، الثالث/ التجاوز، لذلك فإنَّ كل الأجناس والأنواع الأدبيَّة المتداولة قد سبق ظهورها إرهاصات عدّت مقدمات لتكسب ريادتها عبر الإجراءات التي أشرت إليها آنفاً.

والأمثلة كثيرة على ذلك، ولعلَّ أقربها قصيدة التفعيلة التي سبق ظهورها وفق قواعد توصلت إليها نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) جملة من المقدمات تمثلت في عددٍ من النصوص التي شكّلت خروجاً على قوانين الشعر العمودي على يد شعراء عرب منهم علي أحمد باكثير، فعدّت قصيدة التفعيلة رائدة في حركة الشعر العربي المعاصر لتوفر القصديَّة والتكرار والتجاوز في كتابتها، وكذلك بقيَّة الأجناس والأنواع الأدبيَّة، أما الادعاء بوجود أشكالٍ أدبيَّة قديمة تعدُّ جذراً لأشكالٍ معاصرة كما يتداوله بعض الباحثين، مثل اعتبار الشعر السومري والملاحم العراقيَّة القديمة والإشراقات الصوفيَّة قصائد نثر، فهو أمرٌ يثيرُ إشكالاتٍ عديدة لا مجال لمناقشتها في هذا الحيز.

ولكنَّي أشير فقط إلى حقيقة معرفيَّة تقوّضُ هذا الزعم، وهي أنَّ الأجناس الأدبيَّة تظهر كحاجة واستجابة للمتغير الاجتماعي في زمنٍ معينٍ كما في قصيدة النثر التي ولدت نتيجة لظروفٍ تاريخيَّة واجتماعيَّة وفكريَّة سادت في أواخر القرن التاسع عشر على يد بودلير الذي اعتمد هو الآخر على مجموعة من الإرهاصات لكتابة هذا النمط كما وجده عند لوتريامون وباترن وسواه من الشعراء الفرنسيين الذين جربوا الخروج على النمط الكلاسيكي للشعر الفرنسي، إلا أنها كانت تفتقد إلى القصديَّة والتكرار والتجاوز في كتابة قصيدة النثر التي توفر للجنس والشكل الجديد فواعل ظهوره كريادة في زمنها الذي استدعاها كما أراد لها بودلير ومالماريه ورامبو وغيرهم.

وكذا الأمر إذا أردنا التمثيل لظهور الرواية العالميَّة والعربيَّة والقصة القصيرة، فكل هذه الأجناس والأشكال ظهرت كأشكالٍ رياديَّة مستوفية لقوانين تكوينها الداخليَّة بعد بنائها على إرهاصات سابقة، كما أنَّ هنالك ظروفاً تاريخيَّة واجتماعيَّة وفكريَّة استدعت ظهورها، لذا فإنَّ أي محاولة لإسناد الريادة إلى كاتبٍ ما في مجال القصة والقصة القصيرة جداً والرواية وقصيدة النثر والقصيدة الحرة (غير التفعيلة) إنَّما هو محاولة يعتورها الإشكال وعدم الدقّة لافتقادها إلى القصديَّة والتكرار والتجاوز كما حصل في التجربة الرياديَّة لقصيدة التفعيلة عبر روادها نازك والسياب والبياتي التي ظهرت من معطف القصيدة الكلاسيكيَّة/ التقليديَّة كما أنها توافرت على عناصر الفعل الريادي من قصديَّة وتكرار وتجاوز، لذا فإنَّ هذه الأشكال السالفة قد وفدت نقلاً وتأثراً بالآخر وتحديداً الغربي الذي أنجزها لظروفٍ اجتماعيَّة وثقافيَّة استدعت ظهورها.

ولعل ذلك يحيلنا إلى معالجة الإشكال الثاني وهو اعتماد ظهور هذه الأشكال التعبيريَّة بعد نقلها من بيئة الآخر كتجارب أو منجزٍ ريادي في الوقت الذي تمَّ نقلها بقصديَّة واضحة وفق شروطها الإجناسيَّة التي عرفت بها، نعم ممكن اعتبار أي ظهورٍ جديدٍ متجاوزٍ للشكل المنقول برؤية وشكلٍ جديدٍ ظهوراً ريادياً، وهو ما لم يحصل للآن في البنية الثقافيَّة العربيَّة، مع الأخذ بنظر الاعتبار المحاولات التنويعيَّة لهذا الشكل أو ذاك، مثل تنويعات الرواية التأريخيَّة أو اعتماد السطر الشعري في كتابة قصيدة النثر كما هو شائعٌ الآن، أما الإشكال الثالث وهو شائعٌ في مستويات عدّة فنيَّة منها وأدبيَّة فهو عدُّ المدة الزمنيَّة في كتابة هذا النمط أو ذاك فعلاً ريادياً، فتطلق مفردة الرائد على الكاتب أو الفنان الذي قضى وقتاً طويلاً في ممارسته الأدبيَّة والفنيَّة لأشكالٍ تعبيريَّة تمَّ تكريسها في البنية الثقافيَّة، ونرى بطلان هذا الادعاء والإطلاق لاعتبار أنَّ الأشكال التي يمارس كتابتها هؤلاء القدماء قد تمَّ إيجادها سلفاً وفق قواعدها الإجناسيَّة المنقولة أو المبتكرة، ولا فضل لهم سوى بتقادم ممارستهم لها.

وتأسيساً على ما تقدم تتجلى لنا بعض الجوانب التي نراها ضروريَّة لظهور الشكل الريادي وتوصيفات الرائد على حد سواء، مثل الإبداع والابتكار، إذ نرى ضرورة تقديم أفكارٍ جديدة وأساليب مميزة، ولعلَّ ذلك ما يجعل الرائد متفرّدا ومميّزاً بين الآخرين وذا صوتٍ خاصٍ، وكذلك التفاعل مع المتغير الاجتماعي الذي يكون سبباً في ظهور مضامين جديدة تستدعي أشكالاً جديدة تستوعب تلك المضامين وتعبّر عنها، وبذا تكون انعكاساً موضوعياً يتضمن القدرة على التغيير عبر تمتّع المنجز الجديد بالفعل الجمالي المتقدم والخارج على ما هو مألوفٌ ومستهلكٌ وتقليدي، كما أنَّ الاستمراريَّة والتكرار في تقديم المنجز الجديد وتجاوزه تمنح الشكل الريادي موقعاً متقدًماً يحوز الريادة بمعناها السليم.

إنَّ أهميَّة البحث في موضوع الريادة والرائد والاستخدام الصحيح في استخدامهما تهدف إلى تطوير الفكر النقدي، إذ يساعد البحث في الريادة الأدبيَّة والفنيَّة على تعزيز مهارات التفكير النقدي لدى الباحثين والقرّاء، كما أنَّه يسهمُ في حفظ الذاكرة الثقافيَّة وتوثيق التحولات الأدبيَّة والفنيَّة عبر العصور، الأمر الذي يسهمُ في فهم السياق التاريخي والاجتماعي للمنجز الإبداعي، ومن خلال دراسة منجز الرواد يمكن للباحثين والمبدعين اللاحقين استلهام الأفكار الجديدة وتطوير أساليبهم الخاصة.