ديالكتيك التغريب وعوامل الارتباط بالمسرح التعليمي
بهاء محمود علوان
إنَّ التجديد الذي أحدثه برشت في نتاجاتهِ المسرحيَّة هو في جوهره بمثابة استراتيجية تمثيل غير نمطي، ولم يكن مطروقاً قلبه على خشبة المسرح، من خلال التركيز على التباعد بين المَشاهِدْ وعدم خلق وحدة مُشاهدة متجانسة على خشبة المسرح، وهو ما يرقى إلى طريقة رصينة للقص، أو الروي أو السرد.
إن ما يشترك فيه المسرح الملحمي مع المؤسسات التعليميَّة مثل المدارس، أو الجامعات كنشاط مؤسساتي، تمت الإشارة إليهِ بشكل واضح في أعمال برتولت برشت ومسرحه، والعروض التي قدمها، والتي من شأنها أن تُحسب على المسرح التعليمي.
ووفقا لهذا التصور، فإن الاختلافات بين المؤسسات التعليمية والعروض المسرحية التعليميَّة لا يمكن الاستدلال إليها نظرياً، ولا يمكن أن تشكل هاجساً تعليماً عند كلا المؤسستين، على الأقل بطريقة تقديم وعرض المنهج التعليمي، وطريقة تناولهُ. ومع ذلك، ستتم مناقشته العوامل التربويَّة والتعليميَّة في المسرح، عندما تثبت تلك العوامل، لأنها ذات صلة تربوية وتسهم في نظرية التعليم، أي أنها تتعلق بالعرض والتعليم على حد سواء.
ولو تناولنا على سبيل المثال لا الحصر مسرحية برتولت برشت التعليمية (أوبرا القروش الثلاثة)، ومحاولة الوصول إلى المبدأ الادلائي واستعراض طريقة عمله ونظريته المسرحية، والتي سينتقد فيها الأسلوب الأرسطي بالتمثيل والأداء العرضي. وحين يظهرُ جليّاً الأسلوب الأدائي للممثلين على الخشبة ويقدمون عرضهم بأدوات المسرح الملحمي، مبتعدين عن الأداء التقليدي للمسرح الأرسطي، من خلال إبعاد التعاطف لدى المتلقي خلال العرض مع الدور المناط بالممثل.
هنا يجدر الترابط بين العرض ومبادئ التدريس في المؤسسات التعليميَّة، من دون إغفال أفكار ما يسمى بعلم أصول التدريس الإصلاحي والنتائج المرتبطة بهِ. وحين نضع ما يقدمه برشت من نمطيّة متفرّدة في الأداء تحت النظر والدراسة، والذي انتشر انتشاراً سريعاً، سنلاحظ عوامل التأثير التي أنتجها التغريب على خشبة المسرح. وعندما يتعلق الأمر بالوظيفة المتغيرة لمفهوم برشت للتغريب في مجال التعليم، سنجده على النقيض تماماً مع مبدأ التعاطف. ويتم تناول الأفكار والمصطلحات التي تصف صفات وأشكال التخصيص عند التعلّم والتخصيص عند تدريس الأشياء وما هو الدور المنسوب إلى وسائل التعليم بشكل عام.
وتهدف الدراسات المتعلقة بالوسائط التعليميَّة إلى توفير معلومات حول العلاقة بين الوسائل التعليميَّة والتغريب. كما سيتم إعادة بناء الأفكار المكتسبة لأغراض تعليميَّة، وسيتم كذلك عرض تعليم التغريب الذي جعله برشت متاحاً لعلم أصول التدريس باستخدام عنصرين أو هدفين مبنية على وظائف العرض.
الهدف الأول: هو رفع مستوى الوعي بأن العرض هو العمل الرئيسي في مجال التعليم، فضلاً عن دور التغريب.
الهدف الثاني: هو زيادة الوعي بالاختلافات في الجودة التي تؤثر في تغريب الأشياء. كما يجب أن لا يُنظر إلى أصول التدريس من رياض الأطفال إلى أعلى المستويات التعليميَّة على أنّها ليست وثائق جامدة غير قابلة للتغيير.
وعن المبدأ الأدلائي في مسرحية بريشت "أوبرا البنسات الثلاثة" كمؤشر تعليمي، يقول عن نفسهِ في عام 1935: "أنا آينشتاين في الشكل المسرحي الجديد".
إنَّ المؤلف الأكثر تأثيراً والناطق باللغة الألمانيَّة في القرن العشرين كان محقاً في وصفهِ لذاتهِ، وليس هذا نابعٌ من دون أسباب: لقد طور برشت وزملاؤه شكلاً مسرحياً جديداً أحدث ضجة كبيرة في عشرينيات القرن الماضي باسم "المسرح الملحمي"، كما غيَّر الفهم الحالي للدراما والمسرح بشكل دائم، في مجال المسرح الشعري، والإخراج، وسينوغرافيا المكان، فضلا عن الأطروحات النظرية المسرحية التي يتم فيها التعبير عن الاهتمام بالتدريس والتعليم والعلوم.
لقد اكتسبت مسرحية "أوبرا القروش الثلاثة" لقب "العمل الكلاسيكي"، مع كل المزايا والعيوب المرتبطة به، وأن التجديد الذي أحدثه برشت في نتاجاتهِ المسرحيَّة هو في جوهره بمثابة استراتيجية تمثيل غير نمطي ولم يكن مطروقاً قبله على خشبة المسرح، من خلال التركيز على التباعد بين المَشاهِد وعدم خلق وحدة مشاهدة متجانسة على خشبة المسرح، وهو ما يرقى إلى طريقة رصينة للقص، أو الروي أو السرد.
لقد تم إحباط جمالية المسرح الأرسطيَّة، التي تهدف إلى خلق الوهم والتماثل، من خلال الأداء المسرحي. وكان الهدف المركزي لبرشت ذا دوافع تعليميَّة: على غرار "إبراهام ليسنك، وفريدرش شيلر". لم يكن برشت راغباً فقط في ترفيه الجمهور بمسرحياته، بل يريد أيضاً تثقيفهم بروح التنوير، وتحفيز عمليات التعلم والحفاظ عليها، وإرشادهم وتشجيعهم، لخلق أو التدريب على خلق الحكم النقدي لدى المتلقي. وهنا يمكننا القول بأن مسرح برشت هو مسرحٌ تربويٌّ بامتياز.
إنَّ التغريب على المسرح يخلق بين ثناياهُ مسرحاً تربوياً يؤدي دور المؤسسة التربوية بأسلوب العرض المسرحي. هذه السمة الرئيسيَّة لأعمال برشت الفنية تجعله مهماً بقدر كبير لتبنيهِ السياق التعليمي: كما يجب أن نرى ما الذي تقوم عليه أصول التدريس الغريبة والمنتقدة في بعض الأحيان والمثيرة للجدل في أحيانٍ أخرى في أعماله المسرحية.
المهم هو العملية التعليمية التي تبرز كفكرة مركزية في أعمالهِ المسرحية وكتاباته. إنَّ النهج التعليمي الذي تبناهُ برشت كان واضحاً في جميع أعمالهِ سواء كانت المسرحية، أو المقالات النقديَّة، أو الشعر، حين اعتبر القصيدة الشعرية أداةً تعليميَّة لها دور مناط بها.
ومن الأنماط الجديدة التي وظفها برشت هو الاستخدام المفرط للأغاني في المسرح بطريقة يتناول بها الوجع الإنساني اليومي، ويستمد مادته من احتكاكه المباشر بالأسواق، حيثُ يقول في ذلك: "أنا كاتب مسرحي، أعرض ما أراهُ في الأسواق، وأُرقبْ كيف تتم المتاجرة بالناس".
التمثيل الجمالي للعالم في الكتابة وعلى خشبة المسرح وللتدريس والتعلم يتم من خلال وضع أهداف مسبقة لذلك، بعدها تعرض أغراض التعلم عبر تحدد الإيماءة الأساسية الإرشادية التعليمية بشكل عام.
كتب برشت قصيدة أخرى حول كيفية تمثيل الإيضاح في تنفيذه على المسرح، وهي مفيدة للغاية في السياق وتظهر فهرس التدريس. وتأتي القصيدة من سلسلة تتضمن أيضاً "أغنية الكاتب المسرحي". وهذه بدورها مفتوحة يقدم الممثلون أفكاراً حول "شكل المسرح الجديد"، وطريقة التمثيل الجديدة.
في مسرحية "شراء النحاس" تقدم نظرية برشت بشكل حواري، ومع ذلك، فقد ظلت على هذا النحو غير مكتملة بالمعنى التقليدي، ومن ثم أصبحت مرة أخرى مسرحية مقسمة إلى "أربع ليالٍ" تستمدُّ من فكرة "شراء النحاس"، فضلا عن "تمرينات للممثلين، من الليلة الثالثة" والحوارات، بما في ذلك المقاطع الأحادية. تحت عنوان "قصائد من شراء النحاس". لقد أضاف برشت التعليق بين قوسين: "رغبات الكاتب المسرحي". جميع القصائد تتناول فن التمثيل.
واستناداً إلى قصيدة برشت "العرض يجب أن يظهر"، سنوضح مما يتكوّن العرض البرشتي عبر الإشارة إلى مسرحية "شراء النحاس". بعد هذه التفسيرات الأساسية، سيتم استعراض مسرحية "أوبرا القروش الثلاثة"، لأول مرة في عام 1928 بمسرح أم شيفباوردام في برلين، كدليل على التطبيق العملي للمبدأ الأدلائي.
في نهاية المطاف، يجب على مسرحية "أوبرا القروش الثلاثة" أن تضع مجموعة من القواعد التعليميَّة على هذا النحو مع ما يلزم من تعديل، يمكن استخدامه في علم أصول التدريس، أو تم استخدامه بالفعل، ولكن يحتاج بشكل أساسي إلى إعادة النظر في أنّه يجب قراءة التوجيهات المسرحية للممثل الواردة في "المسرحيات" كقواعد تعليميَّة. ويمكن التعرّف عليها أيضاً من خلال أنواع النص التي كانت مكتوبة في نظرية المسرح، ثم دمجها في المشاهد أو وضعها في شكل قصيدة. ولذلك يتم توضيح التعليم في أشكال مكثفة مختلفة، يوضح برشت كيفية "تعليم شيء ما لشخص ما، بما في ذلك إمكانية إظهاره بشكلٍ جلي".