مجلّة (آفاق فُراتيّة) تدخل بثقةٍ عامَها الخامس

ثقافة 2025/01/22
...

  حسين محمد عجيل


بينما كانت مدن العالم تغلقُ الأبوابَ على نفسِها عام 2021، تحسُّباً من مخاطر جائحة كورونا، كان القائمون على إصدارِ مجلّة "آفاق فُراتيّة" يفتحونَ في ذلك العامِ نفسِه كُوّةً واسعةً للأُدباء والكُتّاب في مدينة المسيَّب، وللنّابهينَ من شبابِها، ليُحلّقوا في أجواء الثّقافة والأدب والفكر، وكان الرّهان أن تكون هذه الدّوريّةُ سفيرةً ثقافيّةً للمدينةِ، وها هي ذي تدخلُ بثقةٍ عامَها الخامسَ بطُموحِ أن تكون سفيرةً للثّقافة العراقيّة، وقد ناهزَت صحائفُ عددِها الأخيرِ المئةَ، وهي تعِدُ بالمزيد تجويداً في المُحتوى، وإثراءً في التّبويب، وانفتاحاً على تجاربَ كتابيّةٍ راسخةٍ، وتحسيناً في التّصميم.

تُذكِّرني هذه المجلّةُ النّاهضةُ- الّتي تصدرُ بجُهودٍ شخصيّةٍ لثُلّةٍ طيّبةٍ من أُدباء مدينة المسيَّب- بمجلّةِ (المكتبة) البغداديّة الّتي كان يُصدرها مُنذ مطلع ستينيّات القرن الماضي، الكُتُبيُّ الشّهيرُ قاسم مُحمّد الرّجب، فثمّة أكثر من وشيجةٍ جامعةٍ بينهما، سواءٌ في التّبويب، والاهتمام بقضايا الأدب التُّراث، وتتبُّع الإصدارات الجديدة، أو في توخّي هيأتِها التّحريريّةِ الحرص الشّديد عند انتقاء موادّها، وعند استقطاب أقلام كبار الكُتّاب في عُموم العراق، وكذلك في ما تُبديه من اهتمامٍ استثنائيٍّ في تُوثيق كثيرٍ من الأحداث الثّقافيّة العراقيّة، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ومن ذلك رصدها أخيراً للمُهمٍّ من الشُّؤون الجامعيّةِ وأبرزِ ما يُناقش من رسائلَ وأطاريحَ، وتوثيقها لرحيل أعلام البلاد. 

ومثلما أصبحت مجلّةُ (المكتبة) اليومَ مرجعاً نفيساً للباحثين في شُؤون تلك المرحلةِ من تاريخنا الثّقافيِّ وأعلامِها، ستغدو (آفاق فُراتيّة) في المُقبل من الأعوامِ مرجعاً ومثابةً تُنعش ذاكرة الجيل المقبل بما كانت عليه الثّقافةُ في هذه الأيّام. 

وإذا كان الراحل الرّجبُ، يومئذٍ، أشهرَ كُتُبيٍّ في بلادنا، وصاحبَ أكبرِ مشروعٍ لصناعة الكتاب وترويجِه في العراقِ والعالمِ العربيِّ، وتيسّرت له لأجلِ ذلك وسائلُ إصدار مجلّته تلك، تمويلاً، وتحريراً، وطباعةً، وتوزيعاً في الخافقين، واستجاب كبارُ الكُتّابِ من عراقيّين وعربٍ لدعوات الاستكتاب فيها، فإنّ تجربة الإخوة القائمين على إصدار (آفاق فُراتيّة) في قضاءٍ بمُحافظة بابلَ، لم تتوفّر لهم من ذلك سوى شغفٍ مشفوعٍ بالإرادةِ ذلَّلّ كُلَّ صعبٍ، وأتاح لهم أن يُواصلوا هذه التّجربة الفريدةَ بجُهُودٍ ذاتيّةٍ وتواصُلٍ مُباشرٍ مع نُخبةِ من الكُتّاب في البلاد والمهاجرِ، ينهضُ بهما رئيسُ تحريرِها جواد عبد الكاظم مُحسن، ومُدير تحريرها المُحامي أحمد مجيد الحسن، وهُما أُنموذجان طيّبان في دأبهما على تطوير المجلّة، وضمانِ وصول نُسخِها الورقيّة إلى أيدي النُّخبة من القُرّاء، واتاحةِ نُسخِها الرّقميّةِ للرّاغبين في البلاد وخارجها، فضلاً عن إيداعها مجّاناً في كُبرى مكتبات العاصمة وأُمّهات المدن القريبة، ومكتباتِ المُؤسّسات والهيئات العلميّة فيها، فضلاً عن أهمّ مكتبات الكُلّيات والجامعات ما توفّرت الفُرصة، عبر زيارات ميدانيّةٍ دوريّةٍ تُجريها هيأة تحريرِها للتّواصل والتّعارف وتقديم المُنجز. 

لطالما كنتُ مُنحازاً لمشاريعَ من هذا النّوْع تخرجُ من حيثُ لا يتوقَعُ مُتوقِّعٌ، وتظهرُ في مدنٍ أهملتْها الحُكوماتُ المُتعاقبةُ طويلاً، وليس فيها ما يشفعُ لظُهور مُبادراتٍ ثقافيّةٍ نوعيّةٍ من دُون تمويلٍ، وأذكرُ في هذا السّياقِ مجلّةَ (الثّقافة العراقيّة) الّتي أصدرتْها- بجُهُودٍ شخصيةٍ وبتمويلٍ ذاتيٍّ أيضاً- نخبةٌ من الأُدباء الشّباب والمُثقّفين المُستنيرين في مدينة الدّيوانيّة عام 2016، وتولّى تحريرَها الأصدقاءُ الأساتذةُ الأُدباءُ: أُسامة غالي وأحمد معن وعلي مُحسن، وقدّمتْ في وقتها أنموذجاً نوعيَّاً للصّحافة الثّقافيّة، نافسَ- إن لم يكن أحرجَ- المجلّاتِ الّتي كانت تصدرُ آنذاك عن وزارة الثّقافة، ولذلك ساندتُها شخصيّاً بما أمكنني من جُهدٍ كتابيٍّ وتعريفٍ بين أوساط المعنيّين، وأذكرُ أنّني فاتحتُ على مدى أُسبوعٍ عشراتِ الأصدقاءِ من أبرز الأُدباء والكُتّاب والباحثين في العراق والعالم العربيِّ تعريفاً بتلك المجلّةِ ولمدّها بنتاجِ أقلامهم، فكانت الاستجابةُ كبيرةً قبل أن تُوقفَها صخرةُ التّمويلِ بعد انتظامِها عامين كاملين.

ومن بين المجلّات المُماثلة الّتي لا تزال تُواصلُ صُدورها، وأحرصُ على النَّشْر فيها ما أمكنني، ومُؤازرة المُبادرين بإخراجها إلى النّور في بعض أُمّهات مُدنِ البلاد، أُشير إلى مجلّة (العشرة كراسي) الفصليّة الثّقافيّة الّتي أصدرها في مدينة الحلّة عام 2017 الراحل الدّكتور عبد الرّضا عوض، ويُواصلُ نجلُه اليومَ ديمومةَ هذا المشروع، وأُشير أيضاً إلى مجلّة (رَوى) الفصليّة الثّقافيّة الّتي يُصدرها في مدينة المَوْصِل الحدباء مُنذ عام 2020، الصّديقُ الباحثُ الأُستاذ عُمر السِّنَويُّ وفريقٌ من المُحرّرين الشّباب الأكْفاء، وقد خصّصَ في آخرِ عددٍ منها ملفّاً مهمّاً للعَلّامة الفقيد الدّكتور مُحيي هلال السّرحان، في خُطوةٍ تستحقّ الثّناء والتّقدير، على حين لم تُبادر أيّة دوريّة رسميّة إلى إحياء ذكراه، وقد خدم البلادَ طَوال سبعة عُقُودٍ كاملةٍ تربويَّاً وأكاديميَّاً كبيراً، وباحثاً ومُحقّقاً مشهوداً له بفرادة التّجربة. 

لقد كنتُ وما زلتُ أرى مثلَ هذه المُبادراتِ مآثرَ ثقافيّةً مؤازرتُها ألزمُ من ضرورةٍ وأكبرُ من واجبٍ، فنجاحها إن كان يُضافُ لرصيد المُبادرين باجتراحِها والتخطيطِ لها، والنُّهوضِ بأعباء استمراريّتِها، والسّعي لحفظِ منحى رُقيِّها، فسيعود صدى هذا النّجاحِ، في نهاية المطافِ، ليُحتسبَ رصيداً للثّقافة العراقيّة كُلِّها.