مواقف مشعة من سيرة باب الحوائج
جواد علي كسار
زاهد المدينة
لستُ أدري حقيقةً لماذا يشيح المتحدّثون عن باب الحوائج موسى بن جعفر، عن هذه الواقعة، إذ لا أذكر أنني سمعتها من خطيب أو مبلّغ في مواسم هذا الإمام، ولاسيّما ذكرى استشهاده، مع أنها من دين الله بالصميم، ومن ثوابت المنهاج الديني العلوي، إذ يقول جدّه الإمام أمير المؤمنين في أولى خطب «نهج البلاغة»: «أوّل الدين معرفته» فنصب المعرفة أساساً لهذا الدين، ووضع معرفته سبحانه بالسنام الأعلى؟.
أما الواقعة التي أقصدها فأنقلها حرفياً عن «إرشاد» الشيخ المفيد، إذ يُورد في ترجمة الإمام موسى بن جعفر (128ـ 183هـ) أن زاهداً يقطن المدينة المنوّرة اسمه الحسنُ بن عبد الله، كان من أعبد أهل زمانه، وكان السلطان يتّقيه لجدِّه في الدين واجتهاده، وربما استقبل السلطان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يُغضبه، فكان الحكام يحتملون منه ذلك لصلاحه. لم تزل هذه حاله حتى دخل يوماً المسجد النبوي وفيه أبو الحسن موسى، فأومأ إليه فأتاه، فقال له: «يا أبا علي، ما أحبّ إليَّ ما أنت فيه وأسرّني به، إلا أنه ليست لك معرفة، فاطلب المعرفة!» ردّ الرجل سائلاً: جعلتُ فداك، وما المعرفة؟ قال الإمام: «اذهب تفقّه، واطلب الحديث»، قال: عمّن؟ ردّ عليه الإمام: «عن فقهاء أهل المدينة، ثمّ اعرِض عليّ الحديث».
استقبال ينمّ عن التقدير والاحترام، فقد كنّى الإمام الرجلَ، وأخبره عن سروره بحاله، بيدَ أنه لم يجامله في «المعرفة» وهي قضية تخصّ الدين وأساسه، وإلا استحال الإسلام بدون «المعرفة» إلى طقوس وهياكل. كما أرشده إلى المسار العام لمصادر المعرفة؛ فقهاء أهل المدينة. لكن وضع له شرطاً مرجعياً لذلك التلقي عن الآخرين، بقوله عليه السلام: «ثمّ اعرض عليّ» في إشارة إلى مرجعية الثقلين؛ وأن أئمة أهل البيت هُم «عدل» القرآن، فماذا فعل الرجل؟.
صمت اليقين!
يذكر الشيخ المفيد في تتمة الواقعة، أن صاحب القصة الحسن بن عبد الله، ذهب إلى فقهاء المدينة وكتب عنهم، ولما قرأ ما كتبه على الإمام الكاظم أسقطه كلّه، وجدّد القول له: «اذهب فاعرِف!».
كان الرجل ممن يهمه أمر دينه. بعد أن أسقط الإمام الكاظم ما أخذه عن فقهاء المدينة، أصبح في قلق، وهو ينشد «المعرفة». بقي يترصّد الإمام حتى خرج إلى ضيعةٍ له، فلقيه في الطريق، وقال له: جُعلتُ فداك، إني أحتجّ عليك بين يدي الله، فدلني على ما تجب عليّ معرفته، فدله الإمام صراحة على نهج أهل البيت في معرفة الدين، عبر سلسلة الذهب من علي أمير المؤمنين إلى الأئمة من بعده، إلى الإمام الكاظم نفسه. لم يكن الرجل من أهل الجدل الكلامي وما شابه، بل من أهل التعبّد والتسليم، لذلك طالب الإمام بما يستقرّ إليه قلبه وتسكن له نفسه، فقال له: فشيءٌ استدلّ به؟ فأبرز له الإمام كرامة من كرامات الله على يديه، فكان من تأثيرها الكبير في نفسه الوالهة وقلبه المطمئن، أن أقرّ له، ثمّ انصرف إلى مصيره غير عابئٍ بشيء، وبتعبير الشيخ المفيد عن مصدر الواقعة: «ثمّ لزِمَ الصمت والعبادة، فكان لا يراه أحد يتكلم بعد ذلك» وقد حصل على كنز اليقين بمعرفة الدين القويم (الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 223 ـ 224).
متاهات المرجئة والخوارج
عاش الإمام الكاظم خمسة عقود ونصفا، تزامنت فيها حياته بين نهايات الدولة الأموية وانهيارها وقيام الدولة العباسية، إذ عاصر أربعة حكام من بني العباس إبّان تصديه لمسؤوليات الإمامة الدينية، هم المنصور والمهدي والهادي، ثمّ الرشيد. اقترنت هذه المدّة من حياة الإمام الكاظم بمجموعة تحولات سياسية واجتماعية وثقافية، كان له من كلٍّ منها، مواقف محدّدة. فعلى الصعيد السياسي لم يرَ مواجهة الحكم عسكرياً، بل ذهب إلى التساكن معه وتقليل انحرافاته عبر دسّ رجال كبار في مختلف أجهزته. أما اجتماعياً فقد أكد الإمام نهج التعايش وتقليل التوترات، بينما ركّز ثقافياً على نهج أهل البيت ومرجعيتهم الهدائية في حياة المسلمين.
كأيّ مرحلة انتقالية شهدت حياة المسلمين في ظلّ التحوّل من الحكم الأموي إلى العباسي، استرخاءً في قوّة السلطة أدّى إلى ظهور مختلف التيارات الفكرية وازدهار الاتجاهات الكلامية، ومنها المرجئة والقدرية والمعتزلة والخوارج والزيدية.
إليّ.. إليّ!
وسط هذه الأزمة العقدية برز دور الإمام الهدائي شاخصاً كبيراً. من ذلك الواقعة المشهودة التي يذكرها هشام بن سالم ومحمد بن النعمان المشهور بمؤمن الطاق. يذكر هشام أن الناس اجتمعت على عبد الله بن جعفر بعد وفاة والده الإمام جعفر الصادق. فكان ممن دخل عليه اختباراً لصلاحياته العلمية والهدائية، هما هشام وصاحبه مؤمن الطاق، وكانت الحصيلة سيئة جداً، إذ شهد الرجلان ضآلة معرفة عبد الله وهشاشة علمه، وقال هشام واصفاً ما أصابهما من إحباط، نصاً: فخرجنا ضُلالاً لا ندري إلى أين نتوجّه... إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى المعتزلة، إلى الزيدية، إلى الخوارج؟!.
بعد وقائع تفصيلية مرّت بها تجربة الرجلين، جاء بهما من يطلبهما إلى باب الحوائج، عبر قصة مثيرة يذكرها مؤرخو سيرة الإمام، يلخصها لنا هشام بن سالم أحد رموز الشيعة، بقوله: دخلتُ فإذا أبو الحسن موسى عليه السلام، فقال لي ابتداءً منه: «إليَّ.. إليَّ، لا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، ولا إلى الزيدية» (الإمام موسى بن جعفر، سلسلة أعلام الهداية، ص 65 فما بعد).
اختراق الحكم
مارس الإمام مهمّة التأصيل المعرفي للعقيدة، وهو صاحب الصيحة التصحيحية بتصدّيه للاتجاهات السائدة، وإعادتها إلى مرجعية الكتاب والعترة. أما بالنسبة للشأن السياسي فلم يتبنّ الإمام منهج المواجهة العسكرية الثورية مع الحكم، بل مال إلى الإصلاح السياسي عبر ترشيد الحكم بالميسور؛ من خلال غرس رجاله في مؤسّساته.
ما هو مشهور لدينا هو اسم الوزير علي بن يقطين فقط، وقد مارس دوره في قلب سلطة الرشيد، لكن تأريخ تلك المرحلة يُسجّل حضور رجال من أتباع الإمام كان لهم دورهم المكين في المناصب العليا، كما هو الحال مع زياد بن أبي سلمة، وحفص بن غياث الكوفي من كبار قضاة العاصمة، إذ تولى القضاء ببغداد الشرقية، وعبد الله بن سنان بن طريف، وقد عمل خازناً (وزير مالية) للمنصور والمهدي والهادي والرشيد، والفضل بن سليمان البغدادي، وقد كان يكتب للمنصور والمهدي، ومحمد بن إسماعيل بن بزيغ، وكان أحد وزراء الدولة العباسية، والحسن بن راشد، وقد عمل وزيراً في بلاط المهدي والهادي والرشيد.
هذه الخطوات الإصلاحية الكبيرة واقتحام جهاز الحكم بالرجال الصالحين، يحجبها المتحدّثون عن حياة الإمام تحت وطأة المبالغة بحبسه وعزلته، ورضوخاً إلى تصوّرٍ خاطئ يقرأ دور الأئمة في نطاق العمل الثوري الانقلابي وحده، فتغيب ثوابت التأريخ، وهذا الحضور المكثف لرجال الإمام وأنصاره في الحكومة.
إلى أهل السلطة
لم يفعل الإمام ذلك (اختراق السلطة) إلا بموازين واضحة، يأتي في طليعتها أن يكون الموقع في خدمة الناس، وقضاء حوائجهم، وأن تكون مغانم السلطة للجميع قدر الإمكان. في محاورة مع أحدِ رجاله في السلطة زياد بن أبي سلمة، يقول له الإمام نصاً: «يا زياد لأن أسقط من على حالق [المكان الشاهق] فاقطّع قطعة قطعة، أحبّ إلي من أن أتولى لأحدٍ منهم عملاً، أو أطأ بساط رجل منهم، إلا...» ويسكت الإمام، فيبادر الرجل لسؤاله مستفهماً، فيستدرك الإمام بوضع ثلاثة شروط لتجويزه العمل مع السلطات غير الشرعية، هي بنصّ قوله عليه السلام: «إلا لتفريج كربة عن مؤمن، أو فكّ أسره، أو قضاء دينه».
إذن هي مشاركة مقيّدة باستثمار مغانم السلطة لصالح الناس. يقول الإمام للرجل إيغالاً في البيان والإفهام: «يا زياد، فإن وليت شيئاً من أعمالهم، فأحسِن إلى إخوانك، فواحدة بواحدة، والله من وراء ذلك».
المعادلة الصعبة
مشاركة الصالحين في سلطة الظالمين أمر ضروري لابدّ منه، لتقليل مضار الحكم وزيادة منافعه بالميسور؛ وهذه معادلة أقرب إلى أن تكون من سنن الله في التأريخ، يوضحها الإمام إلى الوزير الموالي علي بن يقطين، عندما استأذن من الإمام مرّات عدّة أن يترك منصبه الوزاري، فنهاه الإمام، وأوضح له المعادلة، بقوله: «يا علي، إن لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة، ليدفع بهم عن أوليائه، وأنت منهم يا علي».
وعندما أصرّ بن يقطين على الانصراف من منصبه، نهاه الإمام وثبّته وهو يصف له منافع السلطة في خدمة الناس، بقوله: «لا تفعل، فإن لنا بك أنساً، ولإخوانك بك عزاً، وعسى الله أن يجبر بك كسيراً، أو يكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه. يا علي، كفارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم».
ثمّ عقد الإمام مع الوزير ابن يقطين صفقة مربحة، ليس فقط في ميزان العمل الصالح وعلى مستوى الفلاح الأخروي، بل على مستوى الواقع المعيشي ووقائع الحياة، عندما قال له نصاً: «اضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثاً! اضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلا قضيت حاجته وأكرمته، أضمن لك أن لا يظلك سقف سجن أبداً؛ ولا ينالك حدّ السيف أبداً؛ ولا يدخل الفقر بيتك أبداً». ما أربحها من صفقة!.
أين الرجال؟
دينٌ قوامه العمل من المؤسف أن تتراجع قيمهُ في السعي والنشاط إلى أدنى مستوى، كما تسجّل الأرقام القطعية من تدنٍ مرعب لمعدلات العمل والإنتاج النافع، في الكثير من بلاد المسلمين ومنها العراق، بالمقارنة مع بلاد الآخرين.
كمؤشر من حياة الإمام موسى بن جعفر يذكر لنا علي بن أبي حمزة، قوله: رأيتُ أبا الحسن عليه السلام، يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق، فقلتُ له: جُعلتُ فداك، أين الرجال؟ فقال: «يا علي، قد عمل باليد من هو خيرٌ مني في أرضه، ومن أبي»، فقلتُ له: ومن هو؟ أجاب الإمام: «رسول الله صلى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين وآبائي كلّهم كانوا قد عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين» (التنمية الاقتصادية في الكتاب والسنة، ص 144).
العمل سنّة الله في خلقه وفي الوجود، وقد مضت عليها حياة آباء الإمام وأجداده وأبنائه، وهي مسار النبيين والصالحين وعباد الله أجمعين. فمن حياة أبيه الإمام الصادق تذكر لنا مصادر ترجمته، عن عبد الأعلى مولى آل سام، قوله: استقبلتُ أبا عبد الله [الإمام الصادق] في بعض طرق المدينة، في يوم صائف شديد الحر، فقلتُ: جُعلتُ فداك، حالك عند الله عز وجلّ وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنت تجهدُ لنفسك في مثل هذا اليوم!.
ماذا كان جواب الإمام الصادق لهذا المتنطّع الذي يأخذ على الإمام عمله، ويلومه على كدّه؟ أجابه الإمام نصاً: «يا عبد الأعلى، خرجتُ في طلب الرزق لأستغني عن مثلك» (الكافي، ج 5، ص 74، ح 3).
ثقافة المعيشة والعمل
بلغ من رقي ثقافة العمل وامتلاك الحرفة وتعلّم المشاغل، أن رسول الله صلى الله عليه وآله، كان إذا نظر إلى الرجل فأعجبه، قال: هل له حِرفة؟ فإن قالوا: لا، قال: سقط عن عيني، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله، قال: لأن المؤمن إذا لم يكن له حرفة يعيش بدينه».
ثقافةٌ تذمّ الفقر وتصفع الوجوه بمثل قول رسول الله: «الفقر أشدّ من القتل»؛ وتذمّ التراخي والكسل وهدر الأوقات كما في قوله صلى الله عليه وآله: «أخشى ما خشيتُ على أمتي: كبرُ البطن، ومداومة النوم والكسل»؛ وتضرب على عادات السرف والتبذير: «من بذّر أفقره الله» و: «سبب الفقر الإسراف»؛ هذه الثقافة تراها غائبة عن حياتنا مع الأسف، تشهد على ذلك معدلات هدر الطعام والإسراف والتبذير عامة في حياتنا كعراقيين، وغياب الإنتاج وشبه الاعتماد على الثروات الطبيعية وحدها، وعلى رأسها النفط، وشيوع مرعب للحياة الاستهلاكية بالاعتماد على منتوجات الآخرين ومستورداتهم.