موســــــى الكاظم {عليه السلام} الترياق المجرب
إعداد: وسام الفرطوسي
توّج الله جهود الأنبياء "ع" وجهادهم المستمرّ على مدى العصور، برسالة خاتم الأنبياء محمد "ص"، الأمانة الكبرى ومسؤوليَّة الهداية بجميع مراتبها، طالباً منه تحقيق أهدافها، ومن هنا كان التخطيط الإلهيّ يحتّم على الرسول "ص" إعداد الصفوة من أهل بيته، والتصريح بأسمائهم وأدوارهم; لتسلّم مقاليد الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة، بأمرٍ من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهيَّة التي تولّوا تبيين معالمها وكشف أسرارها وذخائرها على مرّ العصور، وتجلّى هذا التخطيط الربّاني في ما نصَّ عليه الرسول "ص" بقوله: (إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض).
تبلورت حياة الأئمّة "ع" في استمرارهم على نهج الرسول العظيم وانفتاح الأمة عليهم والتفاعل معهم كأعلامٍ للهداية ومصابيح لإنارة الدرب للسالكين المؤمنين بقيادتهم، ونخصص اليوم هذا البحث لحياة الإمام موسى بن جعفر، الإمام السابع من أعلام الهداية الذي جسّد الكمالات النبويَّة في العلم والهداية والعمل والتربية.
كاظم الغيظ
هو الإمام موسى بن جعفر المعروف بـ (كاظم الغيظ)، سابع أئمة المسلمين وأحد أعلام الهداية الربّانية، وشمسٌ من شموس المعرفة. ولد الإمام موسى بن جعفر في نهاية العهد الأموي سنة (128 هـ)، وعاصر أيّام انهيار هذا البيت الذي عاث باسم الخلافة النبويّة فساداً. وعاصر أيضاً بدايات نشوء الحكم العبّاسي، وعاش في ظلّ أبيه الصادق "ع" عقدين من عمره المبارك وتفيّأ بظلال علوم والده الكريم ومدرسته الربّانية.
فعاصر حكم السفّاح ثم حكم المنصور الذي اغتال أباه في الخامس والعشرين من شوال سنة (148 هـ)، وتصدّى لمنصب الإمامة بعد أبيه الصادق "ع" في ظروف حرجة كان يخشى فيها على حياته.
لقد عاش الإمام موسى الكاظم "ع" ثلاثة عقود من عمره المبارك والحكم العبّاسي لمّا يستفحل، ولكنه قد عانى من الضغوط في عقده الأخير، وكانت ضغوطاً قلّما عاناها أحد من أئمة أهل البيت "ع" من الأمويين وممن سبق الرشيد من العباسيين، من حيث السجن المستمرّ ومحاولات الاغتيال المتتالية، حتى القتل في سبيل الله على يدي عملاء السلطة الحاكمة باسم الله ورسوله.
لقد اشتهر الإمام موسى باسم "كاظم الغيظ" لشدّة حلمه، وبالعابد والتقي وباب الحوائج إلى الله، ولم يستسلم لضغوط الحكّام العباسيين ولألوان تعسفهم من أجل تحجيم نشاطه الربّاني الذي كانت تفرضه عليه ظروف المرحلة، صيانة للرسالة والدولة الإسلامية من الانهيار، وتحقيقاً لهويّة الأمة ومحافظة على الجماعة الصالحة من التحديات المستمرّة والمتزايدة يوماً بعد يوم.
لقد كانت أم الإمام موسى الكاظم "ع" من تلكم النسوة اللاتي جلبن لأسواق يثرب، وقد خصّها الله بالفضل وعناها بالشرف، فصارت وعاءً للإمامة والكرامة وتزوّج بها أبو عبد الله، فكانت من أعزّ نسائه وأحبهن إليه، وآثرهن عنده. واختلف المؤرخون اختلافاً كثيراً في نسبها فقيل: إنها أندلسية، وتكنّى لؤلؤة، وقيل: إنّها رومية، وقيل إنها من أجلّ بيوت الأعاجم، وكانت السيدة حميدة تعامل في بيتها معاملة كريمة، فكانت موضع عناية وتقدير عند جميع العلويات، كما أن الإمام الصادق "ع" كان يغدق عليها بمعروفه، وقد رأى فيها وفور العقل والكمال، وحسن الإيمان وأثنى عليها ثناءً عاطراً، فقال فيها: (حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إليّ كرامة من الله وللحجة من بعدي...).
باب من أبواب الله
قال عنه الإمام الصادق "ع": (فيه علم الحكم، والفهم والسخاء والمعرفة في ما يحتاج الناس إليه في ما اختلفوا فيه من أمر دينهم، وفيه حسن الخلق، وحسن الجوار، وهو باب من أبواب الله عَزَّ وجَلَّ).
قال هارون الرشيد لابنه المأمون وقد سأله عنه: هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده.
وقال له أيضاً: يا بنيّ هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن جعفر، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا.
قال المأمون العباسي في وصفه: قد أنهكته العبادة، كأنه شنّ بال، قد كلم السجود وجهه وأنفه. كتب عيسى بن جعفر للرشيد: لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدّة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقوله في دعائه فما دعا عليك ولا عليّ، ولا ذكرنا بسوء، وما يدعو لنفسه إلاّ بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إليَّ من يتسلّمه مني وإلاّ خليت سبيله، فإني متحرّج من حبسه.
قال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي: هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد الجادّ في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهور بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً، ولفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دعي (كاظماً).
عبادته وتقواه
نشأ الإمام موسى "ع" في بيت القداسة والتقوى، وترعرع في معهد العبادة والطاعة، وقد رأى جميع صور التقوى ماثلة في بيته، فصارت من مقوّمات ذاته ومن عناصر شخصيته، وحدّث المؤرخون أنه كان أعبد أهل زمانه، حتى لقّب بالعبد الصالح، وبزين المجتهدين، إذ لم تر عين إنسان نظيراً له قط في الطاعة والعبادة.
إنّ أجمل الساعات وأثمنها عند الإمام "ع" الساعات التي يخلو بها مع الله عزّ اسمه، فكان يقبل عليه بجميع مشاعره وعواطفه وقد ورد: أنه إذا وقف بين يدي الله تعالى مصلّياً أو مناجياً أو داعياً أرسل ما في عينيه من دموع، وخفق قلبه، واضطرب موجدة وخوفاً منه، وقد شغل أغلب أوقاته في الصلاة (فكان يصلّي نوافل الليل ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس.
ولمّا أودعه طاغية زمانه الملك هارون الرشيد في ظلمات السجون، تفرغ للطاعة والعبادة حتى بهر بذلك العقول وحير الألباب، فقد شكر الله على تفرغه لطاعته قائلاً: (اللّهم إني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهمّ وقد فعلت فلك الحمد). كان الإمام "ع" يصوم في النهار ويقوم مصلّياً في الليل، خصوصاً لمّا سجنه هارون، فإنه لم يبارح العبادة الاستحبابية بجميع أنواعها من صوم وغيره، وهو يشكر الله ويحمده على هذا الفراغ الذي قضاه في عبادته.
جوده وسخاؤه
تجلّى الكرم الواقعي، والسخاء الحقيقي في الإمام "ع"، فكان مضرب المثل في الكرم والمعروف، فقد فزع إليه البائسون والمحرومون لينقذهم من كابوس الفقر وجحيم البؤس، وقد أجمع المؤرخون أنه أنفق جميع ما عنده عليهم، كل ذلك في سبيل الله لم يبتغ من أحد جزاءً أو شكوراً، وكان "ع" في صِلاته يتطلب الكتمان وعدم الذيوع لئلا يشاهد على الآخذ ذلة الحاجة.
وكان الحلم من أبرز صفات الإمام موسى "ع"، فقد كان مضرب المثل في حلمه وكظمه للغيظ، وكان يعفو عمَّن أساء إليه، ويصفح عمن اعتدى عليه، ولم يكتف بذلك وإنما كان يحسن لهم ويغدق عليهم بالمعروف ليمحو بذلك روح الشر والأنانية من نفوسهم.
صفاته وألقابه
كان الإمام "ع" أسمر شديد السمرة، ربع القامة، كث اللحية، ووصفه شقيق البلخي فقال: كان حسن الوجه، شديد السمرة، نحيف الجسم. ألقابه تدل على بعض مظاهر شخصيته، وجملة من جوانب عظمته، وهي كما يلي: (الصابر: لأنه صبر على الآلام والخطوب التي تلقاها من حكام الجور. الزاهر: لأنه زهر بأخلاقه الشريفة. العبد الصالح لعبادته، واجتهاده في الطاعة، حتى صار مضرب المثل في عبادته. السيد: لأنه من سادات المسلمين، وإمام من أئمتهم. الوفي: لأنه أوفى إنسان خلق في عصره، فقد كان وفيّاً بارّاً بإخوانه وشيعته وبارّاً حتى بأعدائه والحاقدين عليه. الأمين: كل ما للفظ الأمانة من معنى قد مثل في شخصيته العظيمة، فقد كان أمينا على شؤون الدين وأحكامه. الكاظم: لقّب بذلك لما كظمه من الغيظ عما فعل به الظالمون من التنكيل والإرهاق حتى قضى شهيداً مسموماً في ظلمات السجون، لم يبد لأحد آلامه وأشجانه بل قابل ذلك بالشكر لله والثناء عليه.
ذو النفس الزكية: وذلك لصفاء ذاته. باب الحوائج: وهذا أكثر ألقابه ذكراً، وأشهرها ذيوعاً وانتشاراً، فقد اشتهر بين العام والخاص أنه ما قصده مكروب أو حزين إلا فرّج الله آلامه وأحزانه، وما استجار أحد بضريحه المقدس إلا قضيت حوائجه، قال الإمام الشافعي: (قبر موسى الكاظم الترياق المجرَّب).
نشاط الإمام "ع" داخل السّجن
قام الإمام بنشاط متميّز من داخل السجن، وفي ما يلي نلخّص ذلك ضمن عدة نقاط:
1 ـ عبادته داخل السّجن: أقبل الإمام على عبادة الله تعالى، فكان يصوم النهار ويقوم الليل ولا يفتر عن ذكر الله.
2 ـ اتّصال العلماء به: اتّصل جماعة من العلماء والرواة بالإمام "ع" من طريق خفي، فانتهلوا من نمير علومه، فمنهم موسى بن إبراهيم المروزي، وقد سمح له السندي بذلك لأنّه كان معلّماً لولده، وقد ألّف موسى بن إبراهيم كتاباً مما سمعه من الإمام.
3 ـ إرسال الاستفتاءات إليه: كانت بعض الأقاليم الإسلامية التي تدين بالإمامة ترسل عنها مبعوثاً خاصاً للإمام "ع" حينما كان في سجن السندي، فتزوده بالرسائل وكان "ع" يجيبهم عنها، وممن جاءه هناك علي بن سويد، فقد اتّصل بالإمام وسلّم إليه الكتب فأجابه.
4 ـ نصب الوكلاء:
وعيّن الإمام"ع" جماعة من تلامذته وأصحابه، فجعلهم وكلاء له في بعض البلاد الإسلامية، وأرجع إليهم شيعته لأخذ الأحكام الإسلامية منهم.
5 ـ تعيينه لولي عهده: نصب الإمام "ع" من بعده ولده الإمام الرضا "ع" فجعله علماً لشيعته ومرجعاً لأمة جدّه، فقد حدّث الحسين بن المختار، قال: لمّا كان الإمام موسى "ع" في السجن خرجت لنا ألواح من عنده وقد كتب فيها (عهدي إلى أكبر ولدي).
6 ـ وصيته "ع":
أوصى الإمام موسى بن جعفر "عليه السلام" ولده الإمام الرضا وعهد إليه بالأمر من بعده، على صدقاته ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وقد أشهد عليها جماعة من المؤمنين، وقبل أنْ يدلي بها ويسجّلها أمر بإحضار الشهود.
مراحل حياته واستشهاده
تبعاً لطبيعة الظروف التي مرّ بها الإمام الكاظم "ع"، فإن حياته تنقسم إلى ثلاث مراحل متميّزة:
المرحلة الأولى: هي مرحلة نشأته وحياته في ظلّ أبيه "ع"، وهي تناهز العقدين من عمره الشريف.
المرحلة الثانية: تبدأ بتسلّمه لزمام الأمور الدينية (العلمية والسياسية والتربوية) بعد استشهاد أبيه، في ظروف سياسيّة قاسية كان يخشى فيها على حياته المباركة، حتى اضطر الإمام الصادق "ع" لأنْ يجعله واحداً من خمسة أوصياء في وصيته المشهورة التي بدّد فيها تخطيط المنصور لاغتيال وصي الإمام الصادق "ع".
واستمرت هذه المرحلة حتى مات المنصور سنة (158 هـ) واستولى المهدي ثم الهادي سنة (169 هـ) على مركز السلطة، فهي تبلغ نحو عقدين أو ما يزيد عليهما بقليل، وكانت مرحلة انفراج نسبي لأهل البيت "ع".
المرحلة الثالثة: هي مرحلة معاصرته لحكم الرشيد، الذي استولى على زمام الحكم سنة (170 هـ) وهو المعروف بحقده على العلويين، بعد أخيه الهادي وأبيه المهدي. واستمرت هذه المرحلة حتى سنة (183 هـ)، وهي سنة استشهاد الإمام الكاظم بيد أحد عمّال الرشيد.
وهذه المرحلة هي من أحرج مراحل حياة الإمام "ع" وأدقّها من حيث تشديد التضييق عليه، ولم ينته العقد الأول من حكم الرشيد إلاّ والإمام في مطامير سجونه، تارة في البصرة وأخرى في بغداد. وتميّزت هذه السنوات العجاف بالتخطيط المستمر من قبل الرشيد لإدانة الإمام "ع" والسعي المتواصل لسجنه واغتياله.
وقد أخذ الإمام يكثّف نشاطه ضد الحكم القائم، فيما إذا قيس إلى مواقفه من المنصور والمهدي، وانتهت هذه المرحلة بالتضييق والتشديد على أهل البيت "ع" وأتباعهم والإمام الكاظم بشكل خاص، بالرغم من عدم قيام العلويين بالثورة ضد هارون الرشيد، لكنَّ الإمام قد استثمر كل طاقاته لبلوغ أهدافه، رغم حراجة الظرف وتشديد القبضة على العلويين. وكان الإمام فيها يعلم بسياسة هارون وقراره النهائي باغتيال الإمام "ع" مهما كلّف الأمر، حتى إنه لم يتقبل وساطة أيّ واحد من مقربي بلاطه.
وانتهت هذه المرحلة بمقاومة الإمام "ع" وثباته على مواقفه وعدم تنازله أمام رغبات الرشيد ومحاولاته لاستذلاله بشكل وآخر، ليركع أمام جبروته لقاء تنفّسه هواء الحرية خارج السجن.
لكنَّ الإمام باشر مهامه بكل إحكام وإتقان، وأوصى إلى ابنه الرضا، وضمن للجماعة الصالحة استمرار المسيرة، وقضى مسموماً صابراً محتسباً. مكللاً جهاده بالشهادة في سبيل الله تعالى. إذ استشهد مظلوماً في حبس السندي بن شاهك في 25 من رجب سنة (183 هـ)، ودفن في مقابر قريش في بغداد.
* المصدر: كتاب أعلام الهداية - الإمام موسى بن جعفر الكاظم "عليه السلام"