بعد ما يقرب من الأربعة عقود تقريبا من صعود موجات الاسلام السياسي بصيغ واشكال متنوعة في العديد من المجتمعات العربية والاسلامية، باتت تلوح مؤشرات على تراجع هذا المد ولأسباب مختلفة. فمن جهة، مثّل الارهاب التكفيري عاملا مهما في تشويه صورة الدين عندما يتم زجه في السياسة، وكان ذلك دافعا مهما في هذا التراجع.
ومع ادراك الصعوبات واللاواقعية التي تتسم بها الكثير من حركات الاسلام السياسي، سواء تلك التي وصلت الى السلطة (كما حدث بعد ما عرف بـ “الربيع العربي”) او تلك التي ظلّت في المعارضة، بات الوعي العام اكثر ادراكا لاستحالة او صعوبة تحقيق الشعارات المعلنة. لا سيما ان ما حدث في العقود الاربعة الماضية كان تناميا كبيرا في عملية التواصل الاعلامي والاجتماعي، ومن ثمَّ، فإنّ الطابع المغلق للبيئات المحلية والداخلية التي كانت تتغذى عليها هذه الحركات ضعف كثيرا.
لقد كان صعود الاسلام السياسي “وعدا” جديدا بتحقيق مجتمعات افضل، مثلما كان صعود الحركات العلمانية التي سبقته كاليسارية والقومية. ولكن التجارب ومرور الاعوام كانت تُبيّن دائما الفجوة الكبيرة بين التصورات الاولى والتطلّعات التي ترافق نشوء هذه الحركات، وبين الواقع والعصر وما يتطلبانه ويمليانه من ضرورات ووقائع.
الوعي السياسي العام في العالم العربي ينتقل اليوم كما يبدو الى حالة جديدة. إذ صار ما يستقطب مشاعر الناس وعقولهم حالة مجتمعات تتيح التداول السلمي للسلطة، وتتيح حرية التعبير، وتحقق نموا اقتصاديا وتحارب الفساد وتنجز تحسّنا ملموسا في احوال الناس. وهذه الاهداف لا تقترن بالضرورة بايديولوجيا معينة. وصارت هذه هي الشعارات التي تحضر بقوة في مظاهر الاحتجاج الجماهيري، ومن اخرها في العالم العربي تحركات المجتمعين الجزائري والسوداني.
وبالنسبة للبلدين المذكورين نستطيع ملاحظة ان الاسلام السياسي بصيغة الارهاب التكفيري كان حاضرا لعقود في الجزائر، واودى بحياة عشرات الالاف من الجزائريين، وكان حكم عزيز بوتفليقة مصدّا له وواجهه بقوة. ولكن لم يعد الارهاب التكفيري في الجزائر بتلك القوة، وهذا ما سحب ورقة قوية من اوراق شهوة البقاء في السلطة التي تسم الحكام العرب. وحتى لو ظهرت حركات اسلاموية تكفيرية ارهابية، فقد بات مفهوما للناس اليوم ان الانظمة الجديدة ستواجهها ولا تقترن بالضرورة بشخص معين او ايديولوجيا معينة. اما بالنسبة للسودان، فقد كان حكم البشير نفسه يجسّد حالة من حالات الاسلام السياسي عندما يصل الى الحكم. ولكن الشعارات التي ظل يرفعها في الدفاع عن الدين والامة وما شابه، كل ذلك مقرون بقمع وتدهور سياسي واقتصادي، لم يؤدِ كما اثبتت التجارب سوى الى مزيد من فقدان الثقة والاحباط.
يبدو عالمنا العربي اليوم على اعتاب مرحلة جديدة، مرحلة تتراجع فيها الايديولوجيات القطعية ذات الوعود الكبيرة الشاملة التي لا تتحقق، وتستبدل ببرامج اكثر واقعية تركز على مطالب الناس وعلى تحسين احوالهم، وليعتقد بعد ذلك كل فرد او جهة او حركة او حزب بما يريد الاعتقاد به، ما دام يحقق نتائج واضحة وملموسة على الارض.