هل يمكن الاستفادة من درس سقوط الموصل؟

آراء 2019/07/04
...

عقيل حبيب

خمس سنوات مرت على ذكرى سقوط مدينة الموصل، ولا توجد اية دراسة مهمة تفهم هذا السقوط وتقف على اسبابه. فهل الخلل في هذا التقصير (وهو مهمة وطنية واخلاقية) يكمن في البون الشاسع بين النخب العلمية البحثية والاكاديمية وبين النخب السياسية والحكومية صاحبة القرار؟ خمس سنوات مرت وما يزال جرح اسمه الموصل نازفا، والعراقيون لم يفوقوا من تأثير صدمته وتداعياتها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. 

اصحاب القرار والنخب السياسية كعادتهم اكتفوا باصدار بعض بيانات الشجب والادانة، التي تشي برائحة العداء السياسي اكثر مما تظهر من المصلحة الوطنية وتقصي اسباب ذلك الانهيار المروع. هذا الانهيار الذي تبين قراءة الأحداث الآنية ان جزءا كبيرا من اسبابه لا تزال قائمة، وهنا يكمن الخطر الأصعب، فالتقارير تتحدث عن مئات الألاف من الشهداء بين مدنيين وعسكريين لم تحسم قضاياهم للآن (من بينهم ضحايا سبايكر اكثر القتلى يمكن أن ينطبق عليهم معنى كلمة ضحايا في تاريخ العراق الحديث)، وتهجير ما يقارب 6 ملايين عراقي ما يزال جزء منهم نازحين الى الآن. والى الآن ايضا لم تنظف الموصل من العبوات والصواريخ غير المنفلقة والمواد السامة الأخرى، ولم يستتب وضع المدينة عامة، البيوت لا تزال مدمرة والشوارع مغلقة والبنى التحتية منهارة. اما على مستوى محاكمة المطلوبين فهناك ما يشبه العجز القضائي الذي تسبب به ضخامة اعداد الملقى القبض عليهم وضياع قواعد البيانات والمعلومات التحقيقية والامنية والاستخبارية. ومثل هذه الحالة تسود باقي المستويات الاخرى الاقتصادية والنفسية والاجتماعية والتربوية...الخ.
فهل تكفي بيانات الشجب والإدانة والاستذكار والتذكير؟ هل تعالج هذه البيانات والمواقف الاعلامية والسياسية، معظلة بهذا العمق والاتساع - كانت من العنف ان هزت الهوية الوطنية وهددت الوجود التاريخي للعراق-؟ هل تكفي هذه البيانات لاعادة ثقة المواطن بمشروع الدولة العراقية بعد 2003 بعد ان تعرض لاقسى اختبار له؟ وهو السؤال الذي اظن أنه الأهم، والذي من المستحيل ان تجيب عليه مجموعة بيانات سياسية واعلامية ملؤها طائفية، ولا تمتلك رؤية وطنية واستراتيجية واضحة ولا برامج عملية. برأيي يتركز الحل - من اجل تصويب وتقويم قراءة النخب العراقية والجهات السياسية المتنفذة التي اصدرت البيانات حول حدث سقوط الموصل - بضرورة اعتماد تلك القراءة على ما تنجزه لجان علمية اكاديمية ومراكز بحوث وكوادر تخصصية تذهب الى الميدان نفسه، اي مدينة الموصل لتقف على دراسة تلك الاسباب وفقا للمناهج العلمية، ومن ثم صياغة ما تتوصل اليه من نتائج في اطار رؤية علمية ووطنية موحدة، لتكون جاهزة امام النخب وامام الرأي العام. ويمكن لهذه اللجان ان تستفيد من النتائج التي خرجت بها بعض اللجان الدولية والحكومة (رئاسة الوزراء العراقية) أو البرلمانية، بالإضافة الى التحقيقات الامنية والاستخبارية، ليتم بعد ذلك بحث كل تلك البيانات واختبارها وفقا لمناهج البحث العلمي المعروفة وضمن تلك الرؤية الشمولية. 
كمراقب وباحث في ذاكرتي كانت ذكرى سقوط الموصل عام 2014 وباقي محافظات العراق، تشبه حدث سقوط الدولة العراقية عام 2003، واتصور ان الشروط التاريخية متشابهة، فقد اظهر العراقيون نفس الاستجابة التي قسمتهم إزاء كلا الحدثين الوجوديين (يتعلق بوجود الأمة العراقية) الى قسمين: قسم يندم على ضياع الماضي، وقسم يخشى المستقبل. فوق هاتين النقطتين تبادل العراقيون شيعة وسنة الأماكن، وفي عمق هذه العلاقة الملتبسة بين الأمة (العراقية) وماضيها، ولد الحاضر مشوهاً خلقيا، ولدت الآفات الاجتماعية، والفساد الأداري والمالي، ولدت الهويات السارقة والقاتلة، وفي حزيران 2014 ولدت (الدولة الاسلامية في العراق والشام) لتكون العاهة الأكبر في جسد الوطن.
هكذا كانت تلك الحلقات المتتالية يكمل بعضها البعض الآخر، لتصل في النهاية الى حدث سقوط ثلث العراق بيد عصابة من شذاذ الآفاق والمتوحشين. وليت تلك الحلقات تنتهي عند هذا الحدث الجلل، بل ما يزال مسلسل التدمير والفتك بالهوية الوطنية قائما، سواء من الناحية الاقتصادية كحرق الحقول وتسميم بحيرات الاسماك وتخريب شبكات النقل وتدمير الصناعات الوطنية (على ندرتها) والبنى التحتية، الى غظ النظر عن المطلوبين للقضاء، الى عودة الاغتيالات والعجلات المفخخة في المناطق التي شهدت دخول داعش، والى سوء إدارة الصراع في مناطق ظلت مصدر قلق طوال خمسة عشر عاماً كملف كركوك، وبعض مناطق ديالى. فهل انتهى حدث سقوط الموصل فعلا؟
لأن الماضي ليس هو الآخر، بل هو نحن قبل خمس سنوات فقط (عام 2014) كنت أرى هذه الاحداث وهي تتوالى في خط مستقيم من النكبات والضياع، وبقدر ما كانت تخيفني استقامة هذا الخط القدري (وكأن هناك يد تمتد من خارج التاريخ والطبيعة تحرص على ان يكمل خط الاحداث المأساوي هذا طريقه من دون ان تستطيع اي قوة ايقافه)، كنت اخاف تصاعديته، وأتساءل: الى اين يمضي بنا الحاضر، وأية مصائر تنتظرنا؟ 
قيل قديما ان الخطأ هو احد وجوه الحقيقة، وجزء لا يتجزأ من التاريخ، فكيف نستطيع تحويل اخطائنا الى فرصة لاكتساب الخبرات من اجل تلافي عدم تكرارها؟ بل كيف نتعلم من أخطاء الماضي أكثر من نجاحات الحاضر؟ 
من أجل تحقيق قطيعة وجودية (انطولوجية) ومعرفية (ابستيمولوجية) مع حدث 2014، من اجل ان لا يكون محكوماً علينا بتكرار الماضي، يجب أن نؤسس لذاكرة وطنية، فمن دون الذاكرة لا يمكن أن توجد علاقة حقيقية بالمكان، فليكن هذا اليوم هو مناسبة من اجل تأسيس ذاكرة السقوط المروع الذي ادى الى تفكك اجزاء الوطن الواحد والتهديد بضياع هويته الوطنية الجغرافية والاجتماعية بين انياب وحوش مفترسة جاءت من جميع بقاع الأرض، ومن ثم هو اليوم الذي شهد نهوض الأمة العراقية لاستعادة تلك الهوية. وما بين هاتين الحركتين العنيفتين اللتين هزتا الهوية الوجودية العراقية، ولدت قوى جديدة في الحقل السني والشيعي، تنادي باحلال الهوية الدينية الطائفية بديلاً لفشل الهوية الوطنية في توحيد وضم اطياف الشعب العراقي.
وحده تضافر الجهود الوطنية السياسية والعلمية والاكاديمية والمهنية كفيل بفهم هذا التناقض الذي طبع سيكولوجيا الهوية العراقية وفهمها لدورها الحضاري وتمثلها لمفاهيم وسرديات كبرى كالوطن والآخر والطائفة والدستور... كما يتم بواسطة هذا المشروع الوطني فهم كارثة بحجم انهيار الموصل إذا ما تسببت بعض الظروف بمحاولة تكرارها.