{أنا والمهرج} في مواجهة التقنيات الآسرة

ثقافة 2025/01/27
...

  ابتهال بليبل 


على مسرح المنصور في ساحة الاحتفالات عُرضت مسرحيَّة (أنا والمهرج) وهي من تأليف وإخراج د. زينب عبد الأمير وإنتاج وإشراف رئيس مؤسسة (أرض بابل الثقافيَّة) الإعلاميَّة جيهان الطائي، وتدور أحداثها في وقتنا الراهن، وتحديداً في عصر التقنيات الإلكترونيَّة، والذي على الرغم من تسميته ب "عصر التكنولوجيا" كوصف ايجابي، وأنه ضرورة ملحة في حياتنا إلاّ أن له سلبياته أيضاً التي قد يكون أقلها الاستعمال المفرط للألعاب الالكترونيَّة بالنسبة للأطفال والمراهقين، فيتسبب بالعديد من المشكلات الجسديَّة والنفسيَّة التي قد تشمل (سلوك إدماني مهووس، نزع الصفة الإنسانيَّة عن اللاعب، فقدان حساسيَّة المشاعر، فرط النشاط، واضطرابات التعلم، وكذلك اضطرابات حركيَّة، ومشكلات صحيَّة مثل التهاب أوتار معصم اليد أو الإجهاد المتكرر، وتطور السلوك المعادي) وهو ما بدا أنه الفكرة الأساس للعرض المسرحي الدال.

لذا فإنَّ العنوان، وهو عتبة مهمة جداً في المسرح يعرفها المشاهد قبل العرض وقبل الدخول إليه، إذ سيتوقع مجموعة من الأحداث التي قد ترتبطُ بهذه الجملة: "أنا والمهرج" وهو عنوانٌ لا يشير فقط إلى الألعاب الالكترونيَّة، بل يلمحُ بشكلٍ مجازي إلى العصر التكنولوجي بأكمله، حيث بدأت تتشكّل أزمة معقدة على مستويات متعددة.

يدورُ الموضوع الرئيس للمسرحيَّة حول فكرة "الاكتمال وعدم الاكتمال". إذ تتصارع شخصيتا المهّرج مدعوس وفدعوس – اللذان يمثلان ثنائيَّة (الخير/ الشر) - مع أوجه القصور التي يدركها كل واحدٍ منهما ويسعى إلى تحقيق الشعور بالاكتمال، الامر الذي يؤشر أموراً تتعارض أو تديم وجهات نظر الأطفال. وقد جاء التنديد الأكثر بروزاً، وكذلك المحفز والمشجع من جانب شخصيَّة الراوية هديل سعد "الجنيَّة" التي صوّرت الألعاب الالكترونيَّة على أنها "العالم الآخر"، والإدمان عليها مسألة مرعبة وغير إنسانيَّة. وهو بالتأكيد نهجٌ فلسفيّ، لأنّ "طبيعة المهرج" بالأساس هي بداخل كل فردٍ منَّا، ووجود هذا المهرج على المسرح يسمحُ لنا بفهم قدرات العقل والجسد البشري، وخاصة عندما يتفاعل مع الجمهور، فالمهرج في هذه العنوان يجسدُ الصفات الأصيلة في إنسان ما قبل الحداثة، ووظيفته تعزيز الحقائق العالميَّة الموجودة في الفكر. ومن ثمّ فإنَّ السلوك غير المعقول المتبع من المهرج يجعل للحقائق معنى، وهو أيضاً أمرٌ ضروريٌّ للتأكيد على القصد التعليمي من العمل المسرحي برمته.

وعليه، فإنَّ المساحة التي يحتلها المهرج أحمد إبراهيم (فدعوس) في النصّ المسرحي "المكان"، الذي يحيل إلى (العالم الافتراضي - شاشة اللعبة الالكترونيَّة) ويستمر في احتلال هذه المساحة حتى بعد خروجه منها إلى أرض الواقع مع حفاظه على الجمهور والتواصل من خلال تفاعلهم مع أفعاله، أظهرت هذه المساحة قدرة على دمج العناصر التقليديَّة مع الموضوعات الحديثة.

أما المهرج أحمد جميل (مدعوس) فقد بدا أداؤه على خشبة المسرح غارقاً في (الجسد) الذي يشكل وجوده. فهو ليس شخصيَّة مهرج، بقدر أنَّه يعمل كمؤسسة للجسد. فالدمية اللطيفة الجامدة التي تحولت إلى مهرجٍ متحركٍ، وهي كما يقول عالم الأحياء والمؤلف جوليان هكسلي هي "عمليَّة تحويليَّة بمعنى تحويل أزمات الحياة الشخصيَّة/ الاجتماعيَّة في المناسبات التي تمثل فيها القيم". 

لذا، فإنَّ شخصيَّة المهرج التاريخيَّة التي مثلت ما قبل الحداثة بدت في هذا العرض "عصر التقنيات" حديَّة، حيث الحد الفاصل هو الخط الضبابي بين عالمين الافتراضي والواقعي. المهرج (فدعوس)، الذي هو أكثر تطوراً من غيره، لا يزال يحتفظ بالعديد من الصفات التي تميز شخصيَّة المؤذي والشرير، على سبيل المثال (المشهد الذي أسعد جمهور الأطفال كان عندما خسر تصويتهم له بوصفه شريراً أو مؤذياً).

وإذا أخذنا كل هذا في الاعتبار، فضلاً عن المعنى المجازي، فإنَّ عنوان "أنا والمهرج" ينتمي أيضاً إلى فئة العنوانات التي تحيلنا لثنائيَّة (التأييد/ المعارضة) التي تتمثل وظيفتهما في معارضة الأحداث أو تأييدها. ومن ثمّ يتحرك العنوان في اتجاهين معاكسين: فالمهرج ليس هو النواة، لكنَّه يمثل الـ (أنا).. إنها اختياراتنا -اختيار الطفل- باسم المتعة واللعب.

وقراءة العنوان على وفق هذه الرؤى يضع هذه المسرحيَّة في "ما بعد الدراما أو ما بعد الحداثة"، بمعنى أنها تنظر لطبيعة الوجود والبحث عن المعنى في عالمٍ معقدٍ ومتغيرٍ غاية في نقل تجارب الأزمة عبر استعمال الوسائط المتعددة والتكنولوجيا وعناصر الأداء غير التقليديَّة، وكذلك دمج عناصر فنيَّة مختلفة، مثل الرقص والفنون البصريَّة والموسيقى، الأمر الذي يعزز نهجاً قابلاً للتكيف مع السياقات الثقافيَّة المختلفة.

إنَّ هذه الإشارات حول عنوان "أنا والمهرج" تتضحُ أكثر عند مشاهدة أحداث المسرحيَّة، فهي تقدم سياقاً لما بعد الحداثة يسودُ فيه عجز الأسرة تجاه إدمان أفرادها الصغار على الألعاب الإلكترونيَّة، فبدلاً من إيجابيَّة "التقدم التكنولوجي" المفترض نتيجة التقنيات، فإنَّ آثار هذا "التقدم" هو سلبيَّة، كما يظهر في العرض. ومن ثم فإنَّ معنى مصطلح "التقدم التكنولوجي" هنا، يقوضه ارتباطه النمطي بتفوقٍ خادعٍ ومزعوم، ويشير إلى العكس تماماً.

المسألة الأخرى المتمثلة في "الانتماء والاقتلاع" من وضعٍ معينٍ إلى مغاير، أو من ثقافة إلى أخرى، وحتى نحو الأشخاص تشكل بالتأكيد هنا أساس معنى عبارة أستلَّها من مخيلتي تجاه أحداث المسرحيَّة "عندما كنا وكيف أصبحنا" إذ تركز على الماضي وعلى حالة تبدو وكأنَّها ضاعت. وكما نلاحظ بالفعل في عرض "أنا والمهرج"، فإنَّ النصَّ يوضح إعادة بناء مفصلة لعالم الطفل ما قبل الاتصال التكنولوجي وما بعده، والذي غيَّر قيماً ثقافيَّة كثيرة. 

وفي حالة بطل المسرحيَّة سجاد الأوسي (آدم)، الطفل الذي أدمن اللعب الإلكتروني، وبدا متعباً وكسولاً ومشوش التركيز، حيث يتمايل برغبته بين أنْ يترك الألعاب الالكترونيَّة أو يعود إليها تارة، وبين دميته وإغراءات كلٍ من المهرج (مدعوس وفدعوس) في أنْ ينحازَ لأحدهما، في واقع الأمر، إنَّ العمل يعطي أهميَّة للشعور بالانتماء الذي يتقاسمه المجتمع، ويكشف عن العديد من الاحتمالات من (مكان وأسرة وثقافة) ولكنْ أيضاً عن براءة الطفل التي تمثل مجازياً الطفل آدم نفسه قبل ظهور الألعاب الالكترونيَّة.

وفي ضوء ذلك، يصبح مفهوما "الانتماء والاقتلاع" في المسرحيَّة مجازاً للاختلاف والتوافق، إنهما (الافتراض والواقع) اللذان يبقيان منفصلين، ويحدّدان لمجالين دلاليين يكتسبان معنى مختلفاً لكل منهما على الرغم من إدماجها في عالمٍ وسطي تجسد بدخول كل من (آدم ومدعوس وفدعوس) في صندوق العجائب، وكيفيَّة تحول التركيز من "تقنيات الهيمنة" إلى "تقنيات الذات" وفقاً للفيلسوف ميشال فوكو في تصنيف الذات وضبطها وتطبيعها، وكيف أنَّ تحقيق الهدف في الوقت الحاضر كما يقترح (ربما لا يكون اكتشاف ما نحن عليه ولكن رفض ما نحن عليه)، وهنا يظهر أنَّ موضوع المسرحيَّة ينحسرُ بالأساس في ملاحقة الرغبة.

يركز عرض "أنا والمهرج" على العلاقة الماديَّة والعاطفيَّة والمكانيَّة بين الممثلين والمتفرجين ويستكشفان إمكانيات المشاركة والتفاعل، وهو ما يسلط الضوء على (الفعل في الواقع) مقابل (محاكاة الخيال)، والفعل في مقابل النتيجة. وهو ما يثبت على طبيعة المسرحيَّة ما بعد الدراميَّة التي تضع المتفرجين الأطفال داخل العرض، وتمحو التمييز بين خشبة المسرح وقاعة الجمهور، وكلاهما يقوض النصَّ بالأقنعة والحركة والرقص، والأهم من ذلك، الاضطرابات الحركيَّة التي تغير علاقة جمهور الأطفال بالمساحة وببعضهم البعض. 

لقد حولت مؤلفة النصَّ المسرحي ومخرجته د. زينب عبد الأمير تركيزنا كمتلقين من المحتوى إلى الشكل أو الأسلوب، وحولت الواقع إلى صور، والوقت إلى إشاراتٍ مستمرة إلى الانتقائيَّة والانعكاسيَّة والإحالة الذاتيَّة، وتعاملت مع التاريخ والفلسفة وعلم النفس الاجتماعي عبر صراع استعمالها بالطريقة الصحيحة والدائر بين الأطفال والأجهزة الإلكترونيَّة، وهو ما يحيلنا أيضاً إلى الهويَّة الحديثة بوصفها ثنائيَّة، إذ تعدُّ الذات الداخليَّة أصيلة ومتسقة وبريئة وطفوليَّة، في حين تعدُّ الهويَّة الخارجيَّة غير أصيلة وقابلة للتغيير ومتصلبة ومصطنعة. وقد حدد رينيه ديكارت هذا التمييز الثنائي بين العقل غير المادي والجسد في تفكيره (أنا أفكر، إذن أنا موجود)، وهو الفعل الذي ينطوي على التفكير بأنَّه يجب أنْ يكون هناك "أنا" تنخرط في النشاط، ومن ثم توفير مقولة يمكن من خلالها استخراج جميع الحقائق الأخرى.

تستكشف مسرحيَّة "أنا والمهرج" مجموعة من التقاطعات الناشئة بين المفاهيم من خلال فحص الواقع والأجساد والذاتيات والجمهور، وتكشف عن إمكانيَّة المسرح ما بعد الدرامي في تمكين نمط تجريبي وحركي ونقدي للوجود يسهل المشاركة الفوريَّة والمجسدة في العمليات التربويَّة والتعليميَّة وخاصة مسؤوليَّة الكبار كشخصيَّة داليا طلال (الأم) في ما يتعلق بشخصيَّة الطفل. 

وأخيراً أزعم بكثيرٍ من التأكيد أنَّ المسرح هو الفنُّ الأهمُ في مواجهة هجوم التقنيات، لأنَّه الفن الوحيد الذي يمزج المتلقي مع النص بمواجهة مباشرة. هو فن الحوار والتأقلم والألفة الإنسانيَّة التي بدأت تنفد من مجتمعنا المعاصر.