{سوناتا} لموسيقى الحجرة الداخليَّة
محمد سيف
تقدم لنا ناتالي ساروت، من خلال كتابها "طفولة"، شهادة مكونة من سلسلة أحداث من ماضيها، والتي، بفضل الكتابة، تنبثق وتخرج من "السمك المبطن" للذاكرة، وهي هاوية ومأوى للتجارب الحيَّة. قد يبدو نصُّ الكتاب صعبًا، لكنَّه مليءٌ بالإنسانيَّة. وقد تمَّ تكييفه أو اقتباسه للمسرح من قبل العديد من الفرق المسرحيَّة الباريسيَّة، في السنوات الأخيرة. لم يكن هدف ناتالي ساروت في كتابتها سرد ملحمة طفولتها الرومانسيَّة ومزج ذكريات السيرة الذاتيَّة بالحكايات المسلية أو الهزليَّة، بقدر ما كان هدفها أنْ تبرز إلى السطح الأحداث والمشاعر والصور والكلمات المدفونة التي تقبع في طي النسيان في الذاكرة، والتي لا تحتاج إلا إلى التحفيز لتطفو على السطح، لتعيش، وتعود ثانية إلى الحياة. في هذا العمل، تصوغ ناتالي ساروت فنًا تكون فيه الكلمات هي الآلات الموسيقيَّة، التي تخدم أسلوبَ كتابة ذا نبراتٍ حميميَّة وعالميَّة في آنٍ واحد، ويمكن وصفها بأنها "سوناتا" لموسيقى الحجرة الداخليَّة.
تروي ساروت السنوات الإحدى عشرة الأولى من طفولتها في شكل حوارٍ بينها وبين نفسها. خلال هذه الفترة، كانت ممزقة بين والديها المطلقين، وبين روسيا (إيفانوفو) وفرنسا (باريس)، وكذلك خلال عطلتها في سويسرا. تحاول ساروت أن تكون صادقة قدر الإمكان، وهذا العمل هو نوعٌ من الاستبطان الذي تتساءل فيه عن الطبيعة الحقيقيَّة لوالدتها الباردة والبعيدة التي تخلت عنها أخيرًا لوالدها عندما كانت في الثامنة والنصف من عمرها، في فبراير 1909. إلا أنها تشرح في نهاية الكتاب كيف تمكنت من إعادة التواصل مع والدتها في وقتٍ متأخرٍ من حياتها. طفولة ممزقة بين أبٍ متزوجٍ وأمٍ بقيت في روسيا. ولكنْ من خلال هذه التجربة الشخصيَّة جداً، تصبح ناتالي ساروت من خلال استخدامها الرائع للكلمات "عازفة للصمت".
الكتاب مكتوبٌ كحوارٍ بين جزأين من ذاتها، وهذا ما يجعله أصيلًا. فالصوتان لهما موقفان مختلفان في ما يتعلق بالعمل على مذكراتها. أحدهما مسؤول عن توجيه السرد والآخر هو الضمير الناقد. ويضع هذا الأخير أحيانًا الكوابح في وجه الأولى، محذرًا إياها من مخاطر فرض تفسيرها بالقوة، أو على العكس من ذلك، دفعها إلى التعمق أكثر. وهكذا، تبعث ناتالي ساروت الحياة في طفولتها التي تنبضُ بالحياة تحت تأثير الكلمات المتحررة التي تشبه القيامة. فأصغر الحقائق التي تبدو غير متماسكة يتمُّ سردُها وتفكيكها بعناية، ما يسمح للكاتبة باكتشاف أعماق شخصيتها التي كانت ستبقى مخفيَّة من دون الكتابة. الموضوعات الرئيسية لهذا العمل هي براءة الطفولة، والحب البنوي والأبوي، والعائلة، والكونيَّة، والصمت والسريَّة، والثقة والخيانة.
إنَّ "طفولة" رواية تسلط الضوء على التوترات التي يمكن أنْ توجدَ داخل الأسرة، وكذلك تلك الموجودة داخل الطفل نفسه. تقدم لنا ساروت تأملاً عميقاً في العلاقات الإنسانيَّة وتعقيدات المشاعر. وتدعونا من خلال كتابتها الرقيقة والاستبطانيَّة إلى الغوص في ذكريات الطفولة المقلقة، حيث الصراع موجودٌ في كل مكان. لكنَّها من وقتٍ لآخر، تُغرقنا في تعرجات ذكريات طفولتها التي تتأرجح بين لحظات السعادة والاضطراب العميق. تدعونا الكاتبة من خلال نثرها المرهف والاستبطاني إلى أنْ نختبرَ معها تلك اللحظات العابرة التي سيطر فيها الفرح والقلق. مثل حديثها عن عطلتها على شاطئ البحر، والاستمتاع بالأمواج والرمال الدافئة. كانت لحظات الاسترخاء والاكتشاف هذه مصدرًا حقيقيًا للبهجة بالنسبة لها، وفاصلاً سحرياً في حياة غالبًا ما كانت تتسم بالوحدة وعدم الفهم. لكنْ خلف لحظات السعادة هذه تكمنُ مشكلاتٌ أعمق. تكشف ساروت عن عيوب طفولتها والتوترات العائليَّة والكلمات المسكوت عنها التي طبعت حياتها. وغالباً ما كانت لحظات السعادة هذه عابرة وهشة لتفسح المجال لواقعٍ أكثر قتامة. لكنَّ أكثر ما يلفت النظر في هذه الذكريات هو الطريقة التي تمكنت بها ساروت من نقل المشاعر المعقدة والمتناقضة التي شعرت بها. فهي تستكشف مشاعر الكرب والوحدة وسوء الفهم التي ميّزت طفولتها، وتدعونا إلى التفكير في تجاربنا الخاصة. فضلاً عن الاستبطان أو التأمل الذاتي، فإن "الطفولة" هي أيضًا انعكاسٌ لبناء الهويَّة. تُظهر لنا ساروت كيف يمكن للذكريات، حتى أكثرها إيلامًا، أنْ تشكل إدراكنا للعالم وتؤثر في خياراتنا المستقبليَّة. وتذكّرنا بأهميَّة مواجهة ماضينا من أجل فهمٍ أفضل لما نحن عليه اليوم.
أحد المخاوف الرئيسة التي تنبثقُ من هذه القصة هو الخوف من المجهول. تصف ساروت بحساسيَّة شديدة اللحظات التي تجد فيها نفسها في مواجهة مواقف جديدة ومقلقة. سواءً كانت خطواتها الأولى في المدرسة، عندما تشعر بالضياع والعزلة، أو أثناء لقاءاتها مع بالغين غير مألوفين، إذ تشعر الطفلة بقلقٍ عميقٍ من المجهول الذي يحيط بها. وهناك قلقٌ متكررٌ آخر في رواية "طفولة" وهو قلق العزلة. تصوّر ساروت ببراعة فائقة اللحظات التي تشعر فيها بالوحدة وسوء الفهم والتخلي عنها. إنها تعبر عن حيرة الطفل اليائس من التواصل مع الآخرين، لا سيما عندما يصطدم بحواجز غير مرئيَّة. هذه الوحدة، التي تصبح هاجسًا حقيقيًا للطفلة الصغيرة، تؤدي إلى حزنٍ عميقٍ وخوفٍ من الهجر.
وأخيرًا، تتناول الكاتبة أيضًا الخوف من الموت، وهو موضوعٌ متكررٌ في أعمالها. تستحضر ساروت بكثافة كبيرة اللحظات التي تدرك فيها فناءها، وكذلك فناء أحبائها. وقد خلق هذا الخوف من النهاية، إلى جانب هشاشة الطفولة، توترًا مستمرًا وقلقًا كامنًا يطاردها.
كانت ناتالي ساروت، واسمها الحقيقي ناتاليا تشرنياك، كاتبة فرنسيَّة من أصل روسي في القرن العشرين. وُلدت في روسيا عام 1900، وتميزت طفولتها بطلاق والديها وتنقلها ذهابًا وإيابًا بينهما، ولكنْ أيضاً بين فرنسا وروسيا. وقد اعتنى بها والدها بشكلٍ أساسي. وكان لهجر والدتها لها تأثيرٌ عميقٌ فيها. درست في العديد من البلدان الأوروبيَّة قبل أنْ تعودَ إلى فرنسا وتصبح محامية وتمتهن الكتابة. من أصل يهودي، مُنعت من المرافعة أثناء الحرب العالميَّة الثانية وتفرغت للكتابة. أعمالها الرئيسة هي روايات ومسرحيات، بالإضافة إلى مقالات أدبيَّة. في العام 1956 على سبيل المثال، نشرت كتابها "عصر الشك"، الذي تدعو فيه إلى أدبٍ يسعى إلى الكشف عمَّا يكمن وراء كلمات وأحاديث الحياة اليوميَّة. ومن أشهر أعمالها كتاب "طفولة" الذي نُشر عام 1983، والذي يحكي قصة مؤلمة، عن انتظارات طفلة لم تتحقق من والديها. يعدُّ المقطع الذي تطلب فيه ناتاشا الصغيرة ناتالي ساروت من والدها أنْ يقول لها "أحبك" لحظة قويَّة وبارزة في القصة. كما أنَّ المقطع الذي تروي فيه الراوية الرسالة التي أرسلتها إلى والدتها لتخبرها فيها أنَّ الأمور لا تسير على ما يرام مع والدها، وحيث تكتشف أنَّ والدتها قد خانتها بإخبار والدها بكل شيء، هو أيضًا مقطعٌ رئيسٌ في الكتاب. فهي توضح أنَّ ناتاشا الصغيرة قد تخلى عنها الجميع.
أما السياق الذي كُتب فيه الكتاب، يكاد يكون معقداً، لا سيما أنَّ القرن العشرين قد اتسم بالاضطراب والصراع. ففي روسيا موطن ناتالي ساروت الأصلي، كان القياصرة هم الذين يحكمون في العام 1900. لكنَّ الأفكار الاشتراكيَّة والشيوعيَّة اكتسبت أرضيَّة واسعة واندلعت الثورة في العام 1917. اهتزت الفترة بأكملها بين عامي 1900 و1917 بسبب الاعتقالات السياسيَّة، واعتقل والد ناتالي ساروت نفسه. في العام 1939، هزت الحرب العالميَّة الثانية أوروبا ومن ثم العالم: سُنّت القوانين المعاديَّة لليهود في فرنسا المحتلة. وقد أثرت هذه القوانين في ناتالي ساروت التي لم تعد قادرة على ممارسة مهنتها كمحامية، واضطرت إلى الطلاق من زوجها حتى يتمكن هذا الأخير من مواصلة عمله. عندها كرست ناتالي ساروت نفسها للكتابة وتكوين آرائها السياسيَّة. في فترة ما بعد الحرب، التي تميزت بإنهاء الاستعمار، اتخذت موقفًا ضدَّ الحرب في الجزائر. عندما كتبت رواية "طفولة" في العام 1983، كنَّا في خضم الحرب الباردة: سقط جدار برلين في العام 1989 وتفكك الاتحاد السوفييتي في العام 1991. وتوفيت ناتالي ساروت بعد ثماني سنوات، في العام 1999.