د. كريم شغيدل
يشكل الأدب الرسمي بعداً أيديولوجياً مؤسساتياً، مثلما يشكل بعداً رمزياً لثقافة المجتمعات، لذلك تجد أيَّة محاولة خروج على النمط التقليدي استهجاناً ومعارضة، لا من لدن المؤسسة الثقافيَّة فحسب، وإنما من لدن المتلقي الذي اعتاد على أنموذج مكرَّس في الذاكرة الجمعيَّة للمجتمع، وقد عانى ويعاني شعراء الموجات الشعريَّة الجديدة تهميشاً مزدوجاً من جهتين على النحو الآتي:
1 - تبرر المؤسسة الثقافيَّة السلطويَّة إقصاءها للنص الجديد من خلال ذريعتين هما:
أ- إنَّها نصوص تسهم بتخريب الذوق العام وتشوّه الموروث الثقافي الذي يمثل روح الأمة وثقافة المجتمع والمساس بالمقدس (بوصف التراث مقدساً واللغة العربيَّة الفصحى لها بعدها المقدس بكونها لغة القرآن) وهذه هي الذريعة المعلنة التي لا تتردد أيَّة مؤسسة ثقافيَّة عن إعلانها.
ب- أما الذريعة المضمرة، فهي إنَّ هذه النصوص تمثِّل خروجاً على أيديولوجيا السلطة وثوابتها التي تستمدها من الموروث التسلطي، وهي أي النصوص تضمر خطاباً معارضاً.
2 - يتماهى المتلقي مع التبرير الأول للسلطة، بكون الأدب الرسمي يمثل شخصيته وموروثه وتاريخه الرمزي، وفي الوقت نفسه يبحث عمَّا يجسد همومه في إطار تقليدي، فيشكِّل النص الحديث بالنسبة له خطاباً غامضاً مهما كان صريحاً، لأنَّه أي المتلقي تهيمن على ذائقته ذاكرة منبريَّة لا يحاول مغادرتها.
هناك عوامل عديدة في صنع الأنموذج الهامشي، سواء على المستوى الاجتماعي/ الذاتي، أم على مستوى النص المكتوب، ولعلَّ الحالة الاقتصاديَّة أهم تلك العوامل، ومن البدهي أن نردد بأن المعاناة هي التي تنتج الإبداع، لكن لا يمكن أن نختزل المعاناة بالفقر أو العوز المادي فحسب، فهناك شعراء كانوا في بحبوحة من العيش- كما يقال- ومع ذلك أنتجوا نصوصاً فيها معاناة إنسانيَّة وجوديَّة، فباستثناء السياب كان رواد الشعر الحر ميسوري الحال نوعاً ما، وكذلك غالبيَّة شعراء الحقبة الستينيَّة وما بعدها، كان بعضهم يشغل مناصب حكوميَّة(مدراء عامين ووكلاء وزارة ورؤساء تحرير صحف ومجلات) ولا نجزم بخلو شعرهم من المعاناة أو معالجة هموم الطبقات المهمشة من المجتمع، والعامل الثاني البيئة: فغالبيَّة الشعراء المحدثين ينحدرون من مناطق مهمشة بعيدة عن مراكز المدن، ما لم نقل قرى معزولة، ومحافظات على الأغلب جنوبيَّة، تعاني من عوامل الفقر والعوز والظلم، منهم من أسر مهاجرة، ومنهم من هاجر بمفرده فوجد نفسه في زحمة مدينة هي العاصمة بغداد، تغريه وتبتزه بمظاهرها المترفة، وتستدرجه لمفاتن ليلها ولهوها، الأمر الذي يزيد في تمرده المضمر على مدينته الأم التي لم توفر له أدنى سبل العيش أو الرقي أو الانتشار، حيث التمرد على بدائيَّة القريَّة يساوي التمرد على تعقيدات المدينة، إلى جانب مشاعر الدونيَّة والضياع والاغتراب، أمَّا العامل الثالث فهو العامل السياسي: فغالبيَّة المنحدرين من مناطق شعبيَّة مهمشة أو محافظات تعاني الإهمال والإقصاء ينمو لديهم شعور بالظلم، الأمر الذي يدفعهم لمعارضة السلطة، سواء بالانتماء الأيديولوجي أو الحزبي المناهض للسلطة، أم باتخاذ موقف فكري أو سلوكي، وللعامل الاجتماعي أيضاً أهميَّة في خلق أشخاص يشعرون بالاستقرار والطمأنينة وسط أسرة يتحملون مسؤوليتها وتشعرهم بأهميَّة وجودهم الإنساني، بينما يعاني بعض الشعراء من الاغتراب الاجتماعي بعيداً عن محيط الأسرة، وبعضهم تمرد على رتابة الحياة الأسريَّة لميوله الفوضويَّة أو رغبة في التحرر من قيود المسؤوليات، وهي سمة تكاد تكون مشتركة بين بعض الشعراء.
كان شعر عبد الأمير الحصيري الذي أطلق عليه لقب (أمير الصعاليك) يمثِّل الأنموذج التقليدي في التماهي مع الموروث الذي يدعم جمود السلطة ويشرعن استبداديتها، لكنَّه تحول أيضاً ليصبح أنموذجاً للأديب الهامشي الذي حاولت السلطة برغم تشرده استمالته ومنحه راتباً بدون أي عمل، وربما يكون الحصيري قد اختار حياة التشرد ليجسد الصراع مع حياة الحرمان والقسوة والعوز بوصفها عوامل نقص تعتمل وتشكِّل شخصيته وتمثِّل إحساسه بالإقصاء الوجودي، ليمارس جلد الذات احتجاجاً، ومارس بحق نفسه سلوكاً مازوشتياً يعبِّر عن عبث الحياة ولا جدواها، بحسب رؤيته ونزعته التمرديَّة، وقد جسد تلك الحياة بوصفها موقفاً للتمرد على النظم السائدة " قد بت أمضغ أعراقي وأوردتي.. وأرتوي من جراحاتي وأنسحق" من هنا نرى إنَّ الحصيري يعيش نصه أو يتمثل حياته جوعاً وبؤساً وتشرداً، وإذا كانت ثمة فرصة لاستقراره من خلال عمله في الصحافة فإنَّه أبى إلا أن يعيش حياة بوهيميَّة هائماً في أزقة بغداد وحاناتها، منتبذاً ما يمكن أن توفره له موهبته من مكانة مرموقة بين شعراء جيله، فلربما لعوامل نفسيَّة وفكريَّة واقتصاديَّة أراد الحصيري أن يلتزم موقفاً رافضاً للمؤسساتيَّة التي يمكن أن تجعله في عجلة السلطة، على الرغم من أنَّه كتب بعض القصائد التي تغنت بالسلطة، فهو القادم من بيئة دينيَّة محافظة (النجف) متمرداً على كلِّ الثوابت، فمع ما كان من تشرده وإدمانه المسكرات لم يتخلّ عن هويَّة بيئته المرتبطة ثقافياً بوجود ضريح الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) والحوزة العلميَّة مركز المرجعيَّة الشيعيَّة العليا في العالم، ففي الوقت الذي يكتب قصيدة يشبه بها الحانة بالجنة والندل بالملائكة، يكتب قصيدة أخرى يتغنى بها بشخصيَّة الإمام علي "عليه السلام".