الولايات المتحدة لا تستطيع استخدام {القوة الماحقة} ضد إيران

قضايا عربية ودولية 2019/07/04
...

 
ترجمة: انيس الصفار 
طرق الرئيس ترامب مسألة قانونية واخلاقية مهمة حين قال أنه قد الغى ضربة جوية كان مخططاً لها ضد إيران لأنها، على حد تعبيره، "لم تكن متناسبة مع الفعل". قال ترامب أن اسقاط إيران طائرة مسيرة لا يقودها طيار لا يبرر شن هجوم عليها قد ينجم عنه مقتل 150 شخصاً. بيد أننا لم نجد اثراً لمثل هذا التسامح بعد أيام قليلة حين راح ترامب نفسه يطلق التحذيرات في الهواء مهدداً إيران باستخدام "القوة الماحقة" إذا ما تجرأت على مهاجمة "أي هدف أميركي".
في المرة الأولى اصاب الرئيس، ولكن بما أن ترامب هو ترامب لا يعود من الواضح إن كان قد أوقف الضربة على إيران لأنها مخالفة للقانون الدولي فعلاً، أم لأنه استطلع رأي مستشاريه القانونيين، أم انه فعل ذلك مخالفاً ميوله الانعزالية، أم لأنه ببساطة شاء أن يماشي هواه. بيد أن مبدأ التناسب يعد حجر زاوية في ضوابط القانون الدولي الذي يقيد استخدام القوة العسكرية، ومن الواجب وضعه في القلب ونصب الأعين لدى مناقشة رد الفعل الانتقامي على اي اعتداء إيراني.
يتلخص مبدأ "التناسب" من حيث الجوهر في فكرة أن حجم القوة العسكرية التي تستخدمها أي دولة يجب أن يكون مرتبطاً بحجم التهديد الذي تواجهه. القصد من هذا هو منع الدول من اتخاذ أي تهديد صغير كمبرر للقيام برد فعل كبير مضخم، واستغلال "وخزة الدبوس" ذريعة لتدمير دولة اخرى. هذا المبدأ يعزز فكرة أن الاعراف الاخلاقية والقانونية، التي تمنع القتل بلا سبب وتحول دون التصعيد، يجب أن تحترم حتى في زمن الحرب، وأي دولة تخالف هذه القواعد تنتهك القانون الدولي.
مسألة النسبة والتناسب لا يمكن أن تثار إلا بعد الاقرار للدول بحق استخدام القوة أساساً. يبيح ميثاق الامم المتحدة للدول ان تستخدم القوة العسكرية في حالتين فقط: عند حصولها على تخويل من مجلس الامن التابع للامم المتحدة، أو عندما تتصرف من منطلق الدفاع عن النفس، وقانون الدفاع عن النفس محدد في الفقرة 51 من ميثاق الامم المتحدة التي تسمح للدول بممارسة الدفاع عن النفس في حالة "وقوع هجوم مسلح" عليها.
رغم ان الميثاق لا يعطي وصفاً محدداً لعبارة "هجوم مسلح" فإن محكمة العدل الدولية، وهي محكمة عالمية مقرها لاهاي، لا تقر إلا بـ"اشد صور استخدام القوة جدية" (مقارنة بحوادث الحدود والمناوشات الصغيرة) كمبرر لممارسة حق الدفاع عن النفس. (الولايات المتحدة ليست عضواً في محكمة العدل الدولية ولكنها من الموقعين على ميثاق الامم المتحدة وهي تعترف بأن الفقرة 51 تعبير ملزم في ما يتعلق بقانون الدفاع عن النفس).
من غير الواضح بعد إن كان اسقاط إيران لطائرة أميركية مسيرة بلا طيار من طراز "غلوبال هوك" في 20 حزيران يعد حادثة لها من "الجدية" ما يبرر تخطي العتبة. فحتى لو فرضنا أن الطائرة المسيرة كانت تطير فوق المياه الدولية (وليس في المجال الجوي الايراني) يبقى من المشكوك به أن يكون تدمير مركبة واحدة ليس على متنها احد خارج الاراضي الاميركية سبباً مبرراً لاستخدام حق الدفاع عن النفس (الامر هنا اقرب من حيث الوصف الى حوادث الحدود). أي هجوم إيراني مستقبلاً سوف يمكن تسميته "هجوماً مسلحاً" إذا ما تخطى العتبة، كأن يتسبب مثلاً بتدمير طائرة يستقلها ركاب ويزهق ارواح مواطنين اميركيين.
حين يتوفر المبرر للدفاع عن النفس يدخل مبدأ التناسب عندئذ على الخط. ورغم أن الفقرة 51 لا تشير الى مسألة التناسب اشارة صريحة فإن الدول مجمعة عموماً على أن استخدام القوة العسكرية غير المتناسبة يعد انتهاكاً لميثاق الامم المتحدة (كأن يرد على سقوط قذيفة هاون يذهب ضحيتها عدد من الجنود بعملية غزو شاملة).
تحديد عناصر "الرد المتناسب" ليس علماً دقيقاً بمعنى الكلمة. لذلك يبدأ المحللون العسكريون والقضاة الدوليون، كلما اجتمعوا لهذه الغاية، بدراسة دقيقة للمصالح المشروعة التي تنشد دولة معينة حمايتها من خلال استخدام القوة. الحالة الكلاسيكية لهذه الدراسة هي حرب الفوكلاند بين بريطانيا والارجنتين في العام 1982، التي ابتدأت عندما ارسلت الارجنتين، الخاضعة لحكم مجلس عسكري، قوات بحرية لغزو واحتلال جزر فوكلاند، التي كانت تحت الحكم البريطاني.
ارسلت بريطانيا بحريتها الملكية لاستعادة تلك الجزر، وبعد حرب استمرت 10 أسابيع تمكنت من ذلك. فلو كان البريطانيون قد ذهبوا الى ابعد من هذا، مثل غزو الاراضي الاجنتينية على سبيل المثال أو اسقاط الحكومة الارجنتينية، لعد تصرفهم خروجاً لا مشروعاً على مبدأ التناسب. الخطط التي وضعت لتوجيه ضربة دفاعية ضد إيران، تلك التي قيل ان ترامب ألغاها، كانت تهدف لضرب بطاريات صواريخ ومحطات رادار إيرانية، ولكن يبدو أن الرئيس أبلغ بأنها يمكن أن تسفر عن مقتل العدد الذي ذكره من الناس. لو تقبلنا جدلاً هنا أن الولايات المتحدة كان لديها المبرر للضرب، فإن توجيه ضربة محجّمة كان سيمكن اعتباره استيفاء لشروط التناسب، مثل تدمير بطارية صواريخ مفردة مضادة للطائرات (وبالتحديد تلك التي اسقطت الطائرة المسيرة). ضربة مثل هذه كانت سترسل اشارة مهمة مع إمكانية البقاء ضمن حدود الشرعية.
لكن لو هاجمت إيران فرقاطة أميركية أو حاملة طائرات، أو غير ذلك من الوسائل والمعدات الاميركية في الشرق الاوسط، وقتل جراء ذلك جنود أو مدنيون أميركيون، فإن مبدأ التناسب سوف يسمح باستخدام قوة دفاعية أكبر. عندئذ سيكون بوسع الولايات المتحدة استخدام اعداد اكبر من الصواريخ وتدمير مزيد من الاهداف، حتى لو ادى ذلك الى ازهاق ارواح، والامر كله مرهون بشدة الفعل الإيراني. ولكن من المهم عند دراسة تقديرات النسبة والتناسب تذكر ان الغاية من استخدام القوة الدفاعية هي درء الهجوم التالي، لا الاقتصاص من ذلك الذي وقع.
يفرض مبدأ التناسب وجود انسجام وتوافق بين التهديد المفروض والقوة المستخدمة لمعالجته. أما "القوة الماحقة" التي هدد بها ترامب (وهو قد استخدم ايضاً كلمة "محو") فهي لا يمكن أن تكون متناسبة إلا في حالة تعرض الدولة الى اقصى درجات التهديد، تهديد في الأرواح وبأعداد كبيرة من المدنيين، وحتى في هذه الحالة ينبغي حصر الرد بالاهداف العسكرية فقط. بكلمة أخرى أن غزو إيران والاطاحة بحكومتها لن يكونا رداً متناسباً إلا اذا واجهت الولايات المتحدة أو حلفاؤها هجوماً سبب اصابات ضخمة وعرضها لخطر مستمر من اعلى الدرجات.
مبدأ التناسب وكذلك القواعد المتعلقة بالدفاع عن النفس يفرضان على الدول مثلما تفرض باقي القوانين الدولية. فالدول يمكن أن تستدعى للمثول امام محكمة العدل الدولية ثم توجه المحكمة الجنائية الدولية الى قادتها السياسيين تهمة ارتكاب الجرائم والعدوان. الولايات المتحدة ترفض التسليم بالسلطة القضائية لهذه المحكمة، ولكن بعيداً عن المحاكمات الرسمية يستطيع المجتمع الدولي أن يمارس فرض القانون الدولي من خلال توجيه الانتقاد الى الدول المارقة التي تهزأ بالقانون، ومعاملتها بالعزل ومنعها من عقد أي اتفاقيات مربحة، أو حتى بفرض عقوبات اقتصادية عليها.
يعتقد بعض القوميين والصقور في أميركا أن علينا تجاهل القانون الدولي لأننا نمتلك القوتين السياسية والعسكرية اللتين تمكناننا من فعل كل ما نريد. ولكن هذا قصر نظر. ففي عصر تلوح في مستقبله الصين كقوة صاعدة، والصواريخ الاسرع من الصوت، والهجمات السبرانية الالكترونية، والاسلحة المتقدمة تكنولوجياً الزهيدة الثمن، قد يصبح بوسع حتى القوى العسكرية المتوسطة الحجم ان تمتلك الوسائل والقدرة على ضرب الولايات المتحدة. لذلك فإن مبدأ التناسب، والتقييد بوجه عام، لدى استخدام القوة فيه من الحماية للولايات المتحدة بقدر ما فيه للقوى العسكرية الاضعف منها.
رغم أن ترامب الغى الضربة الصاروخية على إيران فإن لعبة حافة الهاوية التي يلعبها لا تزال مستمرة، وهذا يبقي احتمال المجابهة العسكرية قائماً. لذا ينبغي على الولايات المتحدة مستقبلاً، عند تقييم اي رد تعتزم الاقدام عليه، أن تضع التناسب نصب عينها لاسباب تتصل بالقانون والاخلاق والتعقل.
*جينس ديفد أوهلن يشغل منصب مساعد العميد واستاذ في القانون في مدرسة القانون بجامعة كورنيل، متخصص بالقانون الدولي والأمن القومي والقانون الجنائي.
 
جينس ديفد أوهلن*
/عن صحيفة واشنطن بوست