قصَّة بورخيس الخياليَّة تتحوّل إلى واقعيَّة

ثقافة 2025/01/28
...

 ترجمة: نجاح الجبيلي 

"طلون، أوكبار، أوربيس ترتيوس" هي قصة قصيرة للكاتب الأرجنتيني في القرن العشرين خورخي لويس بورخيس. نشرت القصة لأول مرة في المجلة الأرجنتينية "الجنوب" في آيار 1940. أما "الملحق" المؤرخ بعام 1947 فقد كتب بقصد أن يكون أنكرونياً، أي أنه يدور بعد سبع سنوات من وقت الكتابة. 

تروى القصة بأسلوب السرد بضمير المتكلم، وتركز على اكتشاف الكاتب لبلد غامض، وربما خيالي يدعى "أوكبار" وأسطورته عن "طلون"، وهو عالم أسطوري يعتقد سكانه في شكل من أشكال المثالية الذاتية، حيث ينكرون واقعية الأشياء والأسماء.

 كما تتناول القصة "أوربس ترتيوس"، المنظمة السريَّة التي ابتكرت كلا الموقعين الخياليين. تُعد القصّة طويلة نسبيًا بالنسبة لأعمال بورخيس (نحو 5600 كلمة)، وهي عمل ينتمي إلى أدب الخيال 

التأملي.

وبمناسبة صدور "الموسوعة الأوليَّة لطلون" كتب المراجع "سيرجيو فانخول" من صحيفة "إل باييس" الأسبانية عن هذه القصة والموسوعة المتعلقة بها: تتحدث "الموسوعة الأولى لطلون" عن كلّ ما يُعرف عن طلون: جغرافيتها، عاداتها، فنون الطهو فيها، وطريقة تفكير سكّانها. 

تخبرنا الموسوعة أن مواطني طلون يهتمّون بعلم النفس أكثر من الفلسفة، وأنهم لا يتحركون سعياً وراء الحقيقة، بل سعياً وراء الدهشة. وفي بعض لغات طلون، لا توجد أسماء، فقط 

أفعال. 

وفي هذا العالم، توجد نمور شفافة حيَّة وأبراج من الدم. ولكن ربما تكون الحقيقة الأكثر شهرة أن الفلسفة المثالية المتطرّفة تسود في طلون، حيث تحظى الأفكار واللغة بأهمية أكبر من الواقع 

نفسه. 

في الحقيقة، لا يؤمن سكان طلون بوجود الحاضر الموضوعي أو الواقع. إذا نَسِيَ شخص ما شيئاً، فإنّ هذا الشيء يتوقف عن الوجود. ووفقاً لهذا المنطق، عادت الموسوعة الأسطوريَّة مؤخراً إلى الوجود في واقعنا الملموس.

طلون هو كوكب خيالي، أنشأته جمعية سريَّة في القرن الخامس عشر تُسمى "أوربيوس تيرتيوس"، بقيادة "رجل عبقري مظلم"، الذي قاد عملية كتابة موسوعة هذا العالم المختلق. كانت الفكرة مجرد لعبة، لكنها تحولت إلى مشروع ضخم استمر عبر أجيال متعاقبة، مغطيةً المزيد من المجالات. وبدأت فكرة طلون تستحوذ على الواقع الأرضي: "سيصبح العالم 

طلون."

نعلم أيضًا أن فكرة "أوربيوس تيرتيوس" كخالق لطلون ولدت من قصة للكاتب خورخي لويس بورخيس. قصة "طلون، وأوكبار، وأوربيوس تيرتيوس" تم تضمينها في مجموعة بورخيس القصصيَّة "خيالات – 1944"، بعد أن نُشرت في مجلة أدبيَّة. يبدأ الكاتب الأرجنتيني القصة بقوله: "أدين باكتشاف أوكبار إلى تقاطع مرآة وموسوعة". 

في القصة، يجد بورخيس إشارة إلى دولة أوكبار في أحد المجلدات، وهي دولة لا يمكن العثور عليها في أي كتاب آخر، كما لو أنها لم تكن موجودة، أو أنها موجودة فقط داخل ذلك المجلد الفريد. ويعلق أحد الزعماء المهرطقين في طلون قائلاً: "المرايا والجماع أمران مشينان لأنهما يزيدان عدد 

البشر."

مع مرور الوقت، يكتشف بورخيس وصديقه المقرّب وشريكه في الهوس أدولفو بيوي كاساريس، من خلال المجلد الذي وجداه من "الموسوعـة الأولـى لطلون"، أن أوكبـار هي دولة تقع على كوكب طلون، وهو عالم اخترعته الجمعية السرية المذكورة من المفكرين والفلاسفة.

يكتب بورخيس بأسلوبه المميز: "الآن أمسك بيدي جزءًا هائلًا ومنهجيًا من التاريخ الكامل لكوكب مجهول، مع عمارته وأوراق لعبه، مع رهبة أساطيره وهمس لغاته، مع أباطرته وبحاره، مع معادنه وطيوره وأسماكه، مع جبروت جبريته وناره، مع جدالاته اللاهوتية والميتافيزيقية. وكل ذلك مترابط ومنسجم، من دون نيَّة عقائديَّة ظاهرة أو نغمة 

تهكم."

"الخيال يبتكر كل الأشياء، كما يبتكر الكتب أيضًا"، يقول خوان كاسامايور، الناشر في دار النشر "باغينا دو إيسبوما". تعكس هذه القصة الشهيرة التشابكات المعقدة التي تربط الواقع بالخيال، وفي حالة الموسوعة الخيالية التي تناولتها، تستكشف كيف يمكن للكتب أن تشكل الواقع. في عصر تهيمن فيه الأخبار الزائفة، نحن ندرك تمامًا كيف يمكن لأشكال مختلفة من المعلومات أن تؤثر في تصورات 

الحقيقة.

يتلاشى الخط الفاصل بين الواقع والخيال أكثر مع المشروع الطموح لدار النشر هذه بقيادة الكاتب المكسيكي خورخي فولبي (الموسوعة الأولى لطلو) إذ يستوحي هذا العمل إلهامه من بورخيس، ويتخيّل نفسه كالمجلد الحادي عشر من الموسوعة الخيالية المذكورة في قصته، وقد تجسّد الآن في عالمنا الملموس. على غرار كتاب "نيكرونوميكون" للافكرافت أو "الملك الأصفر" لتشامبرز، يتجاوز كتاب خيالي أصله الأدبي ليصبح جزءًا من 

واقعنا.

يقول فولبي: "يمكن قراءة هذا الكتاب بثلاث طرق: حرفيًا، كنسخة مطابقة لأول نسخة معروفة من موسوعة طلون. مجازيًا، كمنتج لجمعية سريَّة وخيّرة أنشئت لغرض اختراع بلد. أو بطريقة خيالية، كمجموعة قصصيَّة لمؤلفين شباب تحت سن الأربعين، من كل بلد يتحدث الإسبانية."

في القصة الأصلية، يُشار إلى المجلد باسم Vol. XI. Hlaer to Jangr، وهو الكتاب الذي يكتشفه بورخيس والذي تم الآن استنساخه بدقة متناهية كما وُصف في القصة الخيالية. تم تنفيذ هذا الاستنساخ بعناية استثنائية ودقة، على الرغم من أنه لم يصل إلى 1،001 صفحة كما زُعم، ولكن بطريقة ما، يشير الترقيم كما لو أن هذا العدد 

موجود. 

اقترح خورخي فولبي الفكرة على خوان كاسامايور، الذي كلف بول بييخو بعملية التحرير. وكجزءٍ من تكريم مرح، نُسبت أسماء المشاركين في الكتاب تحت أسماء مستعارة: جورج فوكسيس، بول أولدمان، وجون مانور هاوس.

"كانت الفكرة مثاليَّة تمامًا لأنّها تتزامن مع احتفالنا بالذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسنا، ويمكن أن يكون هذا الكتاب رمزًا لدار نشر متخصصة في القصص القصيرة بدأت مشوارها بنشر المجموعات القصصيَّة. إنه كتاب كل الكتب، الذي أبدعه كاتب القصص القصيرة الأعظم، بورخيس"، يقول كاسامايور. "ومع ذلك، في البداية لم أكن أعتقد أننا سنتمكن من إنجازه، لأنه تطلب عملًا معقدًا للغاية لإعادة 

إنتاجه."

لإعداد هذه النسخة "الحقيقيَّة" من المجلد، استعان الفريق بـ 20 كاتب قصة قصيرة تحت سن الأربعين، من بلدان ناطقة 

بالإسبانية. 

كان البعض منهم معروفين بالفعل، بينما تم اكتشاف آخرين من خلال بحث منهجي. من بين هؤلاء الكُتّاب، إيرين رييس-نوغيرول من إسبانيا، وباولينا فلوريس من تشيلي، ومارينا كلوس من الأرجنتين، ورودريغو فوينتيس من غواتيمالا. مُنح الكُتّاب حرية إبداعيَّة كاملة لإعداد مدخل موسوعي عن موضوع من عالم طلون، مستلهمين من قصة بورخيس الأصلية. يقول بييخو: "الموسوعة بطبيعتها هي بالفعل مجموعة؛ فهي لا تشمل كل الواقع، بل تختار أشياء معينة وتغفل أخرى". ويضيف: "قمنا بدراسة دقيقة لكل من المحتوى والشكل لإعدادها."

في الحقيقة، يُعيد المجلد بدقة استنساخ مظهر الكتاب كما وصفه الكاتب الأرجنتيني العظيم، مع التركيز على أدق التفاصيل. يتمتع بمظهر "عتيق" يشبه موسوعة بريتانيكا (التي درسها بورخيس بعمق)، مع صفحات متبقعة، ونصوص مكتظة للغاية ("يكاد يكون من المستحيل قراءتها للمتعة"، كما يقول بييخو)، ورسوم توضيحيَّة، وحتى أشياء مفقودة مخبّأة داخله - مثل بطاقة بريديَّة وإيصال من مكتبة أمريكان بوكس الواقعة في شارع كورينتي 455 في بوينس آيرس، وهو مكان كان بورخيس يزوره كثيرًا. من بين الكتب الخيالية المذكورة على الإيصال، أعمال خيالية لميلتون، وجوزيف كونراد، وتوماس كارليل - وهم كُتّاب عزيزون على بورخيس.

ربما تكون هذه النسخة من الكتاب الخيالي هي أول اختراق لعالم طلون إلى واقعنا. وربما قريبًا، سيصبح العالم طلون.


عن صحيفة {إل باييس} الاسبانية